وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ: نَصْحِي بِفَتْحِ النُّونِ، وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ بِضَمِّهَا، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا كَالشُّكْرِ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْمًا. وَهَذَانِ الشَّرْطَانِ اعْتَقَبَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا قَوْلَهُ: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ تَقْدِيرُهُ: إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ فَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، وَالشَّرْطُ الثَّانِي: اعْتَقَبَ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ وَجَوَابُهُ أَيْضًا مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، تَقْدِيرُهُ: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ فَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي. وَصَارَ الشَّرْطُ الثَّانِي شَرْطًا فِي الْأَوَّلِ، وَصَارَ الْمُتَقَدِّمُ مُتَأَخِّرًا، وَالْمُتَأَخِّرُ مُتَقَدِّمًا، وَكَأَنَّ التَّرْكِيبَ إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، فَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، وَهُوَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَالشَّرْطِ إِذَا كَانَ بِالْفَاءِ نَحْوَ: إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ.
فَإِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ فَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي. وَنَظِيرُهُ: وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها «١» وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَوْلُهُ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ جَزَاؤُهُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي، وَهَذَا الدَّلِيلُ فِي حُكْمِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ، فَوُصِلَ بِشَرْطٍ كَمَا وُصِلَ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ أَحْسَنْتَ إِلَيَّ أَحْسَنْتُ إِلَيْكَ إِنْ أَمْكَنَنِي. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَلَيْسَ نُصْحِي لَكُمْ بِنَافِعٍ، وَلَا إِرَادَتِي الْخَيْرَ لَكُمْ مُغْنِيَةً إِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ أَرَادَ بِكُمُ الْإِغْوَاءَ وَالْإِضْلَالَ وَالْإِهْلَاكَ. وَالشَّرْطُ الثَّانِي اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْكَلَامِ، وَفِيهِ بَلَاغَةٌ مِنَ اقْتِرَانِ الْإِرَادَتَيْنِ، وَأَنَّ إِرَادَةَ الْبَشَرِ غَيْرُ مُغْنِيَةٍ، وَتَعَلُّقُ هَذَا الشَّرْطِ هُوَ بِنُصْحِي، وَتَعَلُّقُ الْآخَرِ هُوَ بِلَا يَنْفَعُ انْتَهَى. وَكَذَا قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ قَالَ: جَوَابُ الْأَوَّلِ النُّصْحُ، وَجَوَابُ الثَّانِي النَّفْعُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَعْنَى يُغْوِيَكُمْ يُضِلَّكُمْ مِنْ قَوْلِهِ: غَوَى الرَّجُلُ يَغْوِي وَهُوَ الضَّلَالُ. وَفِيهِ إِسْنَادُ الْإِغْوَاءِ إِلَى اللَّهِ، فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ إِذْ يَقُولُونَ: إِنَّ الضَّلَالَ هُوَ مِنَ الْعَبْدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِذَا عَرَفَ اللَّهُ مِنَ الْكَافِرِ الْإِصْرَارَ فَخَلَّاهُ وَشَأْنَهُ وَلَمْ يُلْجِئْهُ سُمِّيَ ذَلِكَ إِغْوَاءً وَإِمْلَاءً، كَمَا إِنَّهُ إِذَا عَرَفَ مِنْهُ أَنْ يَتُوبَ وَيَرْعَوِي فَلَطَفَ بِهِ سُمِّيَ إِرْشَادًا وَهِدَايَةً انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ، وَنَصُّوا عَلَى أَنَّهُ لَا يُوصَفُ اللَّهُ بِأَنَّهُ عَارِفٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِذَا عَرَفَ اللَّهُ كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَلِلْمُعْتَزِلِيِّ أَنْ يَقُولَ: لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ إِنْ شَرْطِيَّةً، بَلْ هِيَ نَافِيَةٌ وَالْمَعْنَى: مَا كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ، فَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى نَفْيِ الْإِضْلَالَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ، إخبار مِنْهُ لَهُمْ وَتَعْزِيَةً لِنَفْسِهِ

(١) سورة الأحزاب: ٣٣/ ٥٠.


الصفحة التالية
Icon