إِشْعَارٌ إِذْ ذَاكَ بِالْعِلِّيَّةِ. لَوْ قُلْتَ: جِئْتُ حِينَ قَامَ زَيْدٌ، لَمْ يَكُنْ مجيئك مستببا عَنْ قِيَامِ زَيْدٍ، وَأَنْتَ تَرَى حَيْثُمَا جَاءَتْ لَمَّا كَانَ جَوَابُهَا أَوْ مَا قَامَ مَقَامَهُ مُتَسَبِّبًا عَمَّا بَعْدَهَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ مِنْ أَنَّهَا حَرْفُ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ. وَجَاءَتْهُمْ ظَاهِرُهُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى ظَلَمُوا أَيْ: لَمَّا حَصَلَ هَذَانِ الْأَمْرَانِ: مَجِيءُ الرُّسُلِ بِالْبَيِّنَاتِ، وَظُلْمُهُمْ أُهْلِكُوا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْوَاوُ فِي وَجَاءَتْهُمْ لِلْحَالِ أَيْ: ظَلَمُوا بِالتَّكْذِيبِ، وَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْحُجَجِ وَالشَّوَاهِدِ عَلَى صِدْقِهِمْ وَهِيَ الْمُعْجِزَاتُ انْتَهَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَيِّنَاتُ مُخَوِّفَاتُ الْعَذَابِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ وَمَا كَانُوا عَائِدًا عَلَى الْقُرُونَ، وَأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: ظَلَمُوا. وَجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ اعْتِرَاضًا لَا مَعْطُوفًا قَالَ: وَاللَّامُ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ بِمَعْنَى: وَمَا كانوا يؤمنون حقا تأكيدا لِنَفْيِ إِيمَانِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ مُسْتَبْعَدٌ مِنْهُمْ وَالْمَعْنَى: أَنَّ السَّبَبَ فِي إِهْلَاكِهِمْ تَعْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ، وَعَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إِمْهَالِهِمْ بَعْدَ أَنْ أُلْزِمُوا الْحُجَّةَ بِبِعْثَةِ الرُّسُلِ انْتَهَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا، عَائِدٌ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ، فَعَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ الْتِفَاتًا، لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ، وَيَكُونُ مُتَّسِقًا مَعَ قَوْلِهِ: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ.
وَالْكَافُ فِي كَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ أَيْ: مِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَهُوَ الْإِهْلَاكُ. نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ فَهَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنْ أَجْرَمَ، يَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ: يَجْزِي بِالْيَاءِ، أَيْ يَجْزِي اللَّهُ، وَهُوَ الْتِفَاتٌ. وَالْخِطَابُ فِي جَعَلْنَاكُمْ لِمَنْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقِيلَ: خِطَابٌ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ، وَالْمَعْنَى: اسْتَخْلَفْنَاكُمْ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ الْقُرُونِ الْمُهْلَكَةِ لننظر أَتَعْمَلُونَ خَيْرًا أَمْ شَرًّا فَنُعَامِلُكُمْ عَلَى حَسَبِ عَمَلِكُمْ. وَمَعْنَى لِنَنْظُرَ:
لِنَتَبَيَّنَ فِي الْوُجُودِ مَا عَمِلْنَاهُ أَوَّلًا، فَالنَّظَرُ مَجَازٌ عَنْ هَذَا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ جَازَ النَّظَرُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَفِيهِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ؟
(قُلْتُ) : هُوَ مُسْتَعَارٌ لِلْعِلْمِ الْمُحَقَّقِ الَّذِي هُوَ عِلْمٌ بِالشَّيْءِ مَوْجُودٌ، أَشْبَهَ بِنَظَرِ النَّاظِرِ وَعِيَانِ الْمُعَايِنِ فِي حَقِيقَتِهِ انْتَهَى. وَفِيهِ دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ، وَأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنَ النَّظَرِ الْمُقَابَلَةُ، وَفِيهِ إِنْكَارُ وَصْفِهِ تَعَالَى بِالْبَصِيرِ وَرَدُّهُ إِلَى مَعْنَى الْعِلْمِ. وَقِيلَ: لِنَنْظُرَ، هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ:
لِيَنْظُرَ رُسُلُنَا وَأَوْلِيَاؤُنَا. وَأُسْنِدَ النَّظَرُ إِلَى اللَّهِ مَجَازًا، وَهُوَ لِغَيْرِهِ. وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ الحرث الزَّمَّارِيُّ: لِنَظَّرَ، بِنُونٍ وَاحِدَةٍ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ وَقَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ الله عَنْهُ، وَيَعْنِي: أَنَّهُ رَآهَا بِنُونٍ وَاحِدَةٍ، لِأَنَّ النَّقْطَ وَالشَّكْلَ بِالْحَرَكَاتِ وَالتَّشْدِيدَاتِ


الصفحة التالية
Icon