قَدْ صَحِبَهُ زَمَانًا وَجَرَّبَ صِدْقَهُ فِي غَيْرِ مَا شَيْءٍ كَتَأْوِيلِ رُؤْيَاهُ وَرُؤْيَا صَاحِبِهِ، وَقَوْلُهُ: لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أَيْ: بِتَفْسِيرِ هَذِهِ الرُّؤْيَا. وَاحْتَرَزَ بِلَفْظَةِ لَعَلِّي، لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الرُّجُوعِ إِلَيْهِمْ، إِذْ مِنَ الْجَائِزِ أَنَّ يَخْتَرِمَ دُونَ بُلُوغِهِ إِلَيْهِمْ. وَقَوْلُهُ: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ، كَالتَّعْلِيلِ لِرُجُوعِهِ إِلَيْهِمْ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا. وَقِيلَ: لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ فَضْلَكَ وَمَكَانَكَ مِنَ الْعِلْمِ، فَيَطْلُبُونَكَ وَيُخَلِّصُونَكَ مِنْ مِحْنَتِكَ، فَتَكُونُ لَعَلَّ كَالتَّعْلِيلِ لِقَوْلِهِ: أَفْتِنَا. قَالَ: تَزْرَعُونَ إِلَى آخِرِهِ، تَضَمَّنَ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ يُوسُفَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الْقَوْلِ: أَحَدُهَا: تَعْبِيرٌ بِالْمَعْنَى لَا بِاللَّفْظِ.
وَالثَّانِي: عَرْضُ رَأْيٍ وَأَمَرَ بِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ. وَالثَّالِثُ: الْإِعْلَامُ بِالْغَيْبِ فِي أَمْرِ الْعَامِ الثَّامِنِ، قَالَهُ قَتَادَةُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَحْتَمِلُ هَذَا أَنْ لَا يَكُونَ غَيْبًا، بَلْ عِلْمُ الْعِبَارَةِ أَعْطَى انْقِطَاعَ الْخَوْفِ بَعْدَ سَبْعٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ الْأَخْصَبُ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دأبا خبر، أَخْبَرَ أَنَّهُمْ تَتَوَالَى لَهُمْ هذه السنون السبع لَا يَنْقَطِعُ فِيهَا زَرْعُهُمْ لِلرَّيِّ الَّذِي يُوجَدُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: تَزْرَعُونَ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْأَمْرِ كَقَوْلِهِ: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ «١» وَإِنَّمَا يَخْرُجُ الْأَمْرِ فِي صُورَةِ الْخَبَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي إِيجَابِ إِنْجَازِ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ وُجِدَ فَهُوَ يُخْبِرُ عَنْهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِهِ في معنى الأمر قَوْلُهُ: فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ انْتَهَى. وَلَا يَدُلُّ الْأَمْرُ بِتَرْكِهِ فِي سُنْبُلِهِ عَلَى أَنَّ تَزْرَعُونَ فِي مَعْنَى ازْرَعُوا، بَلْ تَزْرَعُونَ إِخْبَارُ غَيْبٍ بِمَا يَكُونُ مِنْهُمْ مَنْ تَوَالِي الزَّرْعِ سَبْعَ سِنِينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَذَرُوهُ فَهُوَ أَمْرُ إِشَارَةٍ بِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلُوهُ. وَمَعْنَى دَأَبًا: مُلَازَمَةً، كَعَادَتِكُمْ فِي الْمُزَارَعَةِ. وَقَرَأَ حَفْصٌ: دَأَبًا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَالْجُمْهُورُ بِإِسْكَانِهَا، وَهُمَا مَصْدَرَانِ لِدَأَبَ، وَانْتِصَابُهُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مِنْ لَفْظِهِ أَيْ: تَدَابُونَ دَأَبًا، فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ. وَعِنْدَ المبرد بتزرعون بِمَعْنَى تَدْأَبُونَ، وَهِيَ عِنْدَهُ مِثْلُ قَعَدَ الْقُرْفُصَاءَ. وَقِيلَ: مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ أَيْ: دَائِبِينَ، أَوْ ذَوِي دَأْبٍ حَالًا مِنْ ضَمِيرِ تزرعون. وَمَا فِي قَوْلِهِ: فَمَا حَصَدْتُمْ شرطية أو موصولة، فذروه فِي سُنْبُلِهِ إِشَارَةً بِرَأْيِ نَافِعٍ بِحَسَبِ طَعَامِ مِصْرَ وَحِنْطَتِهَا الَّتِي لَا تَبْقَى عَامَيْنِ بِوَجْهٍ إِلَّا بِحِيلَةِ إِبْقَائِهَا فِي السُّنْبُلِ، فَإِذَا بَقِيَتْ فِيهَا انْحَفَظَتْ، وَالْمَعْنَى: اتْرُكُوا الزَّرْعَ فِي السُّنْبُلِ إِلَّا مَا لَا غِنَى عَنْهُ لِلْأَكْلِ، فَيَجْتَمِعُ الطَّعَامُ وَيَتَرَكَّبُ وَيُؤْكَلُ الْأَقْدَمُ فَالْأَقْدَمُ، فَإِذَا جَاءَتِ السُّنُونَ الْجَدْبَةُ تُقُوِّتَ الْأَقْدَمُ فَالْأَقْدَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمُدَّخَرِ. وَقَرَأَ السُّلَمِيُّ: مِمَّا يَأْكُلُونَ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ أَيْ: يَأْكُلُ النَّاسُ، وَحَذَفَ الْمُمَيَّزَ فِي قَوْلِهِ: سَبْعٌ شِدَادٌ أَيْ: سَبْعُ سِنِينَ شِدَادٌ، لِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: سَبْعُ سِنِينَ عَلَيْهِ. وَأَسْنَدَ

(١) سورة الصف: ٦١/ ١١.


الصفحة التالية
Icon