سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «١» وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ قَوْلَهُ: وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، دَاخِلًا تَحْتَ الأمر بقل، فَيَكُونُ قَدْ أَمَرَ أَنْ يُخْبِرَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الواحد المنفرد بِالْأُلُوهِيَّةِ، الْقَهَّارُ الَّذِي جَمِيعُ الْأَشْيَاءِ تَحْتَ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافَ إِخْبَارٍ فِيهِ يُقَالُ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ: الْوَحْدَانِيَّةِ، وَالْقَهْرِ. فَهُوَ تَعَالَى لَا يُغَالَبُ، وَمَا سِوَاهُ مَقْهُورٌ مَرْبُوبٌ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ.
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ. لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَالْبَاطِلِ وَحِزْبِهِ، كَمَا ضَرَبَ الْأَعْمَى وَالْبَصِيرَ، وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ، مَثَلًا لَهُمَا. فَمَثَّلَ الْحَقَّ وَأَهْلَهُ بِالْمَاءِ الَّذِي يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَتَسِيلُ بِهِ أَوْدِيَةٌ لِلنَّاسِ فَيَحْيَوْنَ بِهِ وَيَنْفَعُهُمْ أَنْوَاعَ الْمَنَافِعِ، وَبِالْفِلِزِّ الَّذِي يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي صَوْغِ الْحُلِيِّ مِنْهُ وَاتِّخَاذِ الْأَوَانِي وَالْآلَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ إِلَّا الْحَدِيدَ الَّذِي فِيهِ الْبَأْسُ الشَّدِيدُ لَكَفَى فِيهِ، وَإِنَّ ذَلِكَ مَاكِثٌ فِي الْأَرْضِ بَاقٍ بَقَاءً ظَاهِرًا يَثْبُتُ الْمَاءُ فِي مَنَافِعِهِ، وَتَبْقَى آثَارُهُ فِي العيون والبئار والجبوب وَالثِّمَارِ الَّتِي تَنْبُتُ بِهِ مِمَّا يُدَّخَرُ وَيَكْثُرُ، وَكَذَلِكَ الْجَوَاهِرُ تَبْقَى أَزْمِنَةً مُتَطَاوِلَةً. وَشَبَّهَ الْبَاطِلَ فِي سُرْعَةِ اضْمِحْلَالِهِ وَوَشْكِ زَوَالِهِ وَانْسِلَاخِهِ عَنِ الْمَنْفَعَةِ بِزَبَدِ السَّيْلِ الَّذِي يُرْمَى بِهِ، وَبِزَبَدِ الْفِلِزِّ الَّذِي يَطْفُو فَوْقَهُ إِذَا أُذِيبَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: صَدْرُ هَذِهِ الْآيَةِ تَنْبِيهٌ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِقَامَةُ الْحُجَّةِ عَلَى الْكَفَرَةِ بِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ ذِكْرُ ذَلِكَ جَعَلَهُ مِثَالًا لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالشَّكِّ فِي الشَّرْعِ وَالْيَقِينِ بِهِ انْتَهَى. وَقِيلَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرْبَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْقُرْآنِ، وَالْقُلُوبِ، وَالْحَقِّ، وَالْبَاطِلِ. فَالْمَاءُ مِثْلُ الْقُرْآنِ لِمَا فِيهِ مِنْ حَيَاةِ الْقُلُوبِ، وَبَقَاءِ الشَّرْعِ وَالدِّينِ وَالْأَوْدِيَةُ مَثَلٌ لِلْقُلُوبِ، وَمَعْنَى بِقَدَرِهَا عَلَى سِعَةِ الْقُلُوبِ وَضِيقِهَا، فمنها ما انتفع بِهِ فَحَفِظَهُ وَوَعَاهُ وَتَدَبَّرَ فِيهِ، فَظَهَرَتْ ثَمَرَتُهُ وَأَدْرَكَ تَأْوِيلَهُ وَمَعْنَاهُ، وَمِنْهَا دُونَ ذَلِكَ بِطَبَقَةٍ، وَمِنْهَا دُونَهُ بِطَبَقَاتٍ. وَالزَّبَدُ مِثْلُ الشُّكُوكِ وَالشُّبَهِ وَإِنْكَارِ الْكَافِرِينَ أَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ، وَدَفْعِهِمْ إِيَّاهُ بِالْبَاطِلِ. وَالْمَاءُ الصَّافِي الْمُنْتَفِعُ بِهِ مِثْلُ الْحَقِّ انْتَهَى. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ مَا

(١) سورة لقمان: ٣١/ ٢٥.


الصفحة التالية
Icon