الَّذِينَ أَشْرَكُوا، تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ مِثْلِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ، فَأَغْنَى عَنِ الْكَلَامُ فِي هَذَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُنَا يَعْنِي أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَحَرَّمُوا مَا أَحَلَّ مِنَ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا، ثُمَّ نَسَبُوا فِعْلَهُمْ إِلَى اللَّهِ، وَقَالُوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ نَفْعَلْ، وَهَذَا مَذْهَبُ الْمُجَبِّرَةِ بِعَيْنِهِ. كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ أَشْرَكُوا وَحَرَّمُوا حَلَالَ اللَّهِ، فَلَمَّا نُبِّهُوا على قبح فعلهم وركوا عَلَى رَبِّهِمْ، فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا أَنْ يُبَلِّغُوا الْحَقَّ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَشَاءُ الشِّرْكَ وَالْمَعَاصِيَ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ، وَيَطَّلِعُوا عَلَى بُطْلَانِ الشِّرْكِ وَقُبْحِهِ، وَبَرَاءَةِ اللَّهِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، وَأَنَّهُمْ فَاعِلُوهَا بِقَصْدِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَاعِثُهُمْ عَلَى جَمِيلِهَا، وَمُوَفِّقُهُمْ لَهُ وَزَاجِرُهُمْ عَنْ قَبِيحِهَا وَمُوعِدُهُمْ عَلَيْهِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَهَذَا الْقَوْلُ صَادِرٌ مِمَّنْ أَقَرَّ بِوُجُودِ الْبَارِي تَعَالَى وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ، أَوْ مِمَّنْ لَا يَقُولُ بِوُجُودِهِ. فَعَلَى تَقْدِيرٍ أَنَّ الرَّبَّ الذي يعبده محمد وَيَصِفُهُ بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ يَعْلَمُ حَالَنَا، وَهَذَا جِدَالٌ مِنْ أي الصفنين كَانَ لَيْسَ فِيهِ اسْتِهْزَاءٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَالُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِهْزَاءِ، وَمِنَ الْمُطَابَقَةِ الَّتِي أَنْكَرَتْ مُطَابَقَةَ الْأَدِلَّةِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ مِنْ مَذْهَبِ خَصْمِهَا مُسْتَهْزِئَةً فِي ذَلِكَ.
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَقَدْ أَمَدَّ إِبْطَالَ قَدْرِ السُّوءِ وَمِشْيَةِ الشَّرِّ بِأَنَّهُ مَا مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا وَقَدْ بُعِثَ فِيهِمْ رَسُولًا يَأْمُرُهُمْ بِالْخَيْرِ الَّذِي هُوَ الْإِيمَانُ وَعِبَادَةُ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ الشَّرِّ الَّذِي هُوَ الطَّاغُوتُ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ أَيْ لَطَفَ بِهِ، لِأَنَّهُ عَرَفَهُ مِنْ أَهْلِ اللُّطْفِ، وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ أَيْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْخِذْلَانُ وَالشِّرْكُ مِنَ اللُّطْفِ، لِأَنَّهُ عَرَفَهُ مُصَمَّمًا عَلَى الْكُفْرِ لَا يَأْتِي مِنْهُ خَيْرٌ. فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا مَا فَعَلْتُ بِالْمُكَذِّبِينَ حَتَّى لَا تَبْقَى لَكُمْ شُبْهَةٌ وَإِنِّي لَا أُقَدِّرُ الشَّرَّ وَلَا أَشَاؤُهُ، حَيْثُ أَفْعَلُ مَا أَفْعَلُ بِالْأَشْرَارِ انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَلَمَّا قَالَ: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ، بَيَّنَ ذَلِكَ هُنَا بِأَنَّهُ بَعَثَ الرُّسُلَ بِعِبَادَتِهِ وَتَجَنُّبِ عِبَادَةِ غَيْرِهِ، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَبَرَ فَهَدَاهُ اللَّهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَعْرَضَ وَكَفَرَ، ثُمَّ أَحَالَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ ذَلِكَ عَلَى السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ وَاسْتِقْرَاءِ الْأُمَمِ، وَالْوُقُوفِ عَلَى عَذَابِ الْكَافِرِينَ الْمُكَذِّبِينَ، ثُمَّ خَاطَبَ نَبِيَّهُ وَأَعْلَمَهُ أَنَّ مَنْ حَتَّمَ عَلَيْهِ بِالضَّلَالَةِ لَا يُجْدِي فِيهِ الْحِرْصُ عَلَى هِدَايَتِهِ.


الصفحة التالية
Icon