عَجِيبٌ، وَسَلُوهُ عَنْ رَجُلٍ طَوَّافٍ بَلَغَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا مَا كَانَ بِنَاؤُهُ، وَسَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ فَأَقْبَلَ النضر وعقبة إِلَى مَكَّةَ فَسَأَلُوهُ فَقَالَ: «غدا أخبركم» وَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَاسْتَمْسَكَ الْوَحْيُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَرْجَفَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَقَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ تَرَكَهُ رَئِيُّهُ الَّذِي كَانَ يَأْتِيهِ مِنَ الْجِنِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ عَجَزَ عَنْ أَكَاذِيبِهِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا انْقَضَى الْأَمَدُ جَاءَهُ الْوَحْيُ بِجَوَابِ الْأَسْئِلَةِ وَغَيْرِهَا.
وَرُوِيَ فِي هَذَا السَّبَبِ أَنَّ الْيَهُودَ قَالَتْ: إِنْ أَجَابَكُمْ عَنِ الثَّلَاثَةِ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَإِنْ أَجَابَ عَنِ اثْنَتَيْنِ وَأَمْسَكَ عَنِ الْأُخْرَى فَهُوَ نَبِيٌّ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ سُورَةَ أَهْلِ الْكَهْفِ وَأَنْزَلَ بَعْدَ ذلك وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «١».
وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا قَالَ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ «٢» وَذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ أَهْلَ الْعِلْمِ وَأَنَّهُ يَزِيدُهُمْ خُشُوعًا، وَأَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالْحَمْدِ لَهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا، أَمَرَهُ تَعَالَى بِحَمْدِهِ عَلَى إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ السَّالِمِ مِنَ الْعِوَجِ الْقَيِّمِ عَلَى كُلِّ الْكُتُبِ الْمُنْذِرِ مَنِ اتَّخَذَ وَلَدًا، الْمُبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْأَجْرِ الْحَسَنِ. ثُمَّ اسْتَطْرَدَ إِلَى حَدِيثِ كَفَّارِ قُرَيْشٍ وَالْتَفَتَ مِنَ الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً «٣» إِلَى الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ عَلى عَبْدِهِ لِمَا فِي عَبْدِهِ مِنَ الْإِضَافَةِ الْمُقْتَضِيَةِ تشريفه، ولم يجيء التركيب أنزل عليك.
والْكِتابَ الْقُرْآنُ، وَالْعِوَجُ فِي الْمَعَانِي كَالْعِوَجِ فِي الْأَشْخَاصِ وَنُكِّرَ عِوَجاً لِيَعُمَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِهِ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ فِي غَايَةِ الِاسْتِقَامَةِ لَا تَنَاقُضَ وَلَا اخْتِلَافَ فِي مَعَانِيهِ، لَا حُوشِيَّةَ وَلَا عِيَّ في تراكيبه ومبانيه. وقَيِّماً تَأْكِيدٌ لِإِثْبَاتِ الِاسْتِقَامَةِ إِنْ كَانَ مَدْلُولُهُ مُسْتَقِيمًا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكِ. وَقِيلَ: قَيِّماً بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ وَشَرَائِعِ دِينِهِمْ وَأُمُورِ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ. وَقِيلَ: قَيِّماً عَلَى سَائِرِ الْكُتُبِ بِتَصْدِيقِهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمَنْفِيَّةِ، فَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى أَنْزَلَ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي الصِّلَةِ، وَرَتَّبَ عَلَى هَذَا أَنَّ الْأَحْسَنَ فِي انْتِصَابِ قَيِّماً أَنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ وَلَا يُجْعَلَ حَالًا مِنَ الْكِتابَ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ بِبَعْضِ الصِّلَةِ، وَقَدَّرَهُ جَعَلَهُ قَيِّماً. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَيِّماً نُصِبَ عَلَى الْحَالِ مِنْ الْكِتابَ فَهُوَ بِمَعْنَى التَّقْدِيمِ مُؤَخَّرٌ فِي اللَّفْظِ، أَيْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ قَيِّماً وَاعْتَرَضَ بَيْنَ الْحَالِ وَذِي الْحَالِ قَوْلُهُ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ذَكَرَهُ الطَّبَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ١٠٥.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ١١١.