قُلْنَا بِأَنَّ أَحْصى اسْمٌ لِلتَّفْضِيلِ جَازَ أَنْ يَكُونَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ موصولا مبينا عَلَى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لِوُجُودِ شَرْطِ جَوَازِ الْبِنَاءِ فِيهِ، وَهُوَ كَوْنُ أَيُّ مُضَافَةً حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِهَا، وَالتَّقْدِيرُ لِيُعْلَمَ الْفَرِيقُ الَّذِي هُوَ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً مِنَ الَّذِينَ لَمْ يُحْصُوا، وَإِذَا كَانَ فِعْلًا مَاضِيًا امْتَنَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَمْ يُحْذَفْ صَدْرُ صِلَتِهَا لِوُقُوعِ الْفِعْلِ صِلَةً بِنَفْسِهِ عَلَى تَقْدِيرِ جَعْلِ أَيُّ مَوْصُولَةً فَلَا يَجُوزُ بِنَاؤُهَا لِأَنَّهُ فَاتَ تَمَامُ شَرْطِهَا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِهَا.
وَقَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا تَقُوُلُ فِيمَنْ جَعَلَهُ مِنْ أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ؟ قُلْتُ: لَيْسَ بِالْوَجْهِ السَّدِيدِ، وَذَلِكَ أَنَّ بِنَاءَهُ مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ لَيْسَ بِقِيَاسٍ، وَنَحْوَ أَعْدَى مِنَ الْجَرَبِ، وَأَفْلَسَ مِنَ ابْنِ الْمُذَلَّقِ شَاذٌّ، وَالْقِيَاسُ عَلَى الشَّاذِّ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ مُمْتَنِعٌ فَكَيْفَ بِهِ، وَلِأَنَّ أَمَداً لَا يَخْلُو إِمَّا أَنْ يُنْصَبَ بِأَفْعَلَ فَأَفْعَلُ لَا يَعْمَلُ، وَإِمَّا أَنْ يُنْصَبَ بِلَبِثُوا فَلَا يَسُدُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى، فَإِنْ زَعَمْتَ أَنِّي أَنْصِبُهُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَحْصى كَمَا أُضْمِرُ فِي قَوْلِهِ:
وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ الْقَوَانِسَا عَلَى يَضْرِبُ الْقَوَانِسَ فَقَدْ أَبْعَدْتَ الْمُتَنَاوَلَ وَهُوَ قَرِيبٌ حَيْثُ أَبَيْتَ أَنْ يَكُونَ أَحْصى فِعْلًا ثُمَّ رَجَعْتَ مُضْطَرًّا إِلَى تَقْدِيرِهِ وَإِضْمَارِهِ انْتَهَى. أَمَّا دَعْوَاهُ الشُّذُوذَ فَهُوَ مَذْهَبِ أَبِي عَلِيٍّ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ظَاهِرَ مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ جَوَازُ بِنَائِهِ مِنْ أَفْعَلَ مُطْلَقًا وَأَنَّهُ مَذْهَبُ أَبِي إِسْحَاقَ وَأَنَّ التَّفْصِيلَ اخْتِيَارُ ابْنِ عُصْفُورٍ وَقَوْلُ غَيْرِهِ. وَالْهَمْزَةُ فِي أَحْصى لَيْسَتْ لِلنَّقْلِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ فَأَفْعَلُ لَا يَعْمَلُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ في التمييز، وأَمَداً تَمْيِيزٌ وَهَكَذَا أَعْرَبَهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحْصى أَفْعَلُ لِلتَّفْضِيلِ، كَمَا تَقُولُ: زَيْدًا أَقْطَعُ النَّاسُ سَيْفًا، وَزَيْدٌ أَقْطَعُ لِلْهَامِ سَيْفًا، وَلَمْ يعر به مَفْعُولًا بِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَإِمَّا أَنْ يُنْصَبَ بِلَبِثُوا فَلَا يَسُدُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى أَيْ لَا يَكُونُ سَدِيدًا فَقَدْ ذَهَبَ الطَّبَرِيُّ إِلَى نَصْبِ أَمَداً بِلَبِثُوا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
وَهَذَا غَيْرُ مُتَّجِهٍ انْتَهَى. وَقَدْ يَتَّجِهُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمَدَ هُوَ الْغَايَةُ وَيَكُونُ عِبَارَةً عَنِ الْمُدَّةِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ لِلْمُدَّةِ غَايَةً فِي أَمَدِ الْمُدَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَمَا بمعنى الذي وأَمَداً مُنْتَصِبٌ عَلَى إِسْقَاطِ الْحَرْفِ، وَتَقْدِيرُهُ لِمَا لَبِثُوا مِنْ أَمَدٍ أَيْ مُدَّةٍ، وَيَصِيرُ مِنْ أَمَدٍ تَفْسِيرًا لِمَا أنهم في لفظ لِما لَبِثُوا كَقَوْلِهِ مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ «١» وَلَمَّا سَقَطَ الْحَرْفُ وَصَلَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَإِنْ زَعَمْتَ إِلَى آخِرِهِ فَيَقُولُ: لَا يَحْتَاجُ إِلَى هَذَا الزَّعْمِ لِأَنَّهُ لِقَائِلِ

(١) سورة فاطر: ٣٥/ ٢.


الصفحة التالية
Icon