قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: قَوْلِهِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها مُسَبَّبٌ عَنْ خَوْفِ الْغَصْبِ عَلَيْهَا فَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنِ السَّبَبِ فَلِمَ قُدِّمَ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: النِّيَّةُ بِهِ التَّأْخِيرُ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ لِلْعِنَايَةِ وَلِأَنَّ خَوْفَ الْغَصْبِ لَيْسَ هُوَ السَّبَبَ وَحْدَهُ، وَلَكِنْ مَعَ كَوْنِهَا لِمَساكِينَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: زَيْدٌ ظَنِّي مُقِيمٌ.
وَقِيلَ فِي قراءة أبي وعبد الله كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ انْتَهَى. وَمَعْنَى أَنْ أَعِيبَها بِخَرْقِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَراءَهُمْ وَهُوَ لَفْظٌ يُطْلَقُ عَلَى الْخَلْفِ وَعَلَى الْأَمَامِ، وَمَعْنَاهُ هُنَا أَمَامَهُمْ.
وَكَذَا قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ. وَكَوْنُ وَراءَهُمْ بِمَعْنَى أَمَامَهُمْ قَوْلُ قَتَادَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ السِّكِّيتِ وَالزَّجَّاجِ، وَلَا خِلَافَ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّ وَرَاءَ يَجُوزُ بِمَعْنَى قُدَّامَ، وَجَاءَ فِي التَّنْزِيلِ وَالشِّعْرِ قَالَ تَعَالَى مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ «١» وَقَالَ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ «٢» وَقَالَ وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ «٣». وَقَالَ لَبِيدٌ:
أَلَيْسَ وَرَائِي إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي | لُزُومُ الْعَصَا يُحْنَى عَلَيْهَا الْأَصَابِعُ |
أَيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وَطَاعَتِي | وَقَوْمِي تَمِيمٌ وَالْفَلَاةُ وَرَائِيَا |
أَلَيْسَ وَرَائِي أَنْ أَدُبَّ عَلَى الْعَصَا | فَتَأْمَنَ أَعْدَاءٌ وَتَسْأَمُنِي أَهْلِي |
وَقَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم: «الصَّلَاةُ أَمَامَكَ»
يُرِيدُ فِي الْمَكَانِ، وَإِلَّا فَكَوْنُهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ أَمَامَ الصَّلَاةِ فِي الزَّمَنِ. وَتَأَمَّلْ هَذِهِ الْمَقَالَةَ فَإِنَّهَا مُرِيحَةٌ من شغب هذه الْأَلْفَاظِ وَوَقَعَ لِقَتَادَةَ فِي كُتُبِ الطَّبَرِيِّ وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ. قَالَ قَتَادَةُ: أَمَامَهُمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَقُولُ
(٢) سورة إبراهيم: ١٤/ ١٧.
(٣) سورة المؤمنون: ٢٣/ ١٠٠.
(٤) سورة الجاثية: ٤٥/ ١٠.