فِي تَقْرِيرِهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا ضَمَّ فَرْخَهُ إِلَيْهِ لِلتَّرْبِيَةِ خَفَضَ لَهُ جَنَاحَهُ، فَخَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةٌ عَنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ وَكَأَنَّهُ قِيلَ لِلْوَلَدِ اكْفُلْ وَالِدَيْكَ بِأَنْ تَضُمَّهُمَا إِلَى نَفْسِكَ كَمَا فَعَلَا ذَلِكَ بِكَ حَالَ صِغَرِكَ. الثَّانِي: أَنَّ الطَّائِرَ إِذَا أَرَادَ الطَّيَرَانَ وَالِارْتِفَاعَ نَشَرَ جَنَاحَهُ، وَإِذَا أَرَادَ تَرْكَ الطَّيَرَانِ وَتَرْكَ الِارْتِفَاعِ خَفَّضَ جَنَاحَهُ فَصَارَ خَفْضُ الْجَنَاحِ كِنَايَةً عَنْ فِعْلِ التَّوَاضُعِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: اسْتِعَارَةٌ أَيِ اقْطَعْهُمَا جَانِبَ الذُّلِّ مِنْكَ وَدَمِّثْ لَهُمَا نَفْسَكَ وَخُلُقَكَ، وَبُولِغَ بِذِكْرِ الذُّلِّ هُنَا وَلَمْ يُذْكَرْ فِي قَوْلِهِ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «١» وَذَلِكَ بِسَبَبِ عِظَمِ الْحَقِّ انْتَهَى. وَبِسَبَبِ شَرَفِ الْمَأْمُورِ فَإِنَّهُ لَا يُنَاسِبُ نِسْبَةَ الذُّلِّ إِلَيْهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى جَناحَ الذُّلِّ؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَكَ كَمَا قَالَ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ «٢» فَأَضَافَهُ إِلَى الذُّلِّ أَوِ الذِّلِّ كَمَا أُضِيفَ حَاتِمٌ إِلَى الْجُودِ عَلَى مَعْنَى وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَكَ الذَّلِيلَ أَوِ الذَّلُولَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ لِذُلِّهِ أَوْ لِذِلِّهِ جَنَاحًا خَفِيضًا كَمَا جَعَلَ لَبِيدٌ لِلشَّمَالِ يَدًا، وَلِلْقَرَّةِ زَمَانًا مُبَالَغَةً فِي التَّذَلُّلِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُمَا انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ اللِّينَ ذُلًّا وَاسْتَعَارَ لَهُ جَنَاحًا ثُمَّ رَشَّحَ هَذَا الْمَجَازَ بِأَنْ أَمَرَ بِخَفْضِهِ. وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا تَمَّامٍ لَمَّا نَظَمَ قَوْلَهُ:
لَا تَسْقِنِي مَاءَ الْمُلَامِ فَإِنَّنِي | صَبٌّ قَدِ اسْتَعْذَبْتُ مَاءَ بُكَائِيَا |
أَرَاشُوا جَنَاحِي ثُمَّ بَلُّوهُ بِالنَّدَى | فَلَمْ أَسْتَطِعْ مِنْ أَرْضِهِمْ طَيَرَانَا |
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٨٨.