كَانُوا بِالْمَغْرِبِ ثُمَّ مَلَكُوا مِصْرَ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدَّعُونَ الْإِلْهِيَّةَ وَيُطَافُ بِقَصْرِهِمْ فِي مِصْرَ وَيُنَادَوْنَ بِمَا يُنَادَى بِهِ رَبُّ الْعَالَمِينَ مِنَ التَّسْبِيحِ وَالتَّقْدِيسِ، فَهَؤُلَاءِ وَإِنْ كَانَ مِنْهُمْ نَفْعٌ مَا لِعَابِدِيهِمْ فِي دَارِ الدُّنْيَا فَضَرَرُهُمْ أَعْظَمُ وَأَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمْ، إِذْ هُمْ فِي الدُّنْيَا مَمْلُوكُونَ لِلْكُفَّارِ وَعَابِدُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَفِي الْآخِرَةِ مُعَذَّبُونَ الْعَذَابَ الدَّائِمَ وَلِهَذَا كَانَ التَّعْبِيرُ هُنَا بِمَنِ الَّتِي هِيَ لِمَنْ يَعْقِلُ، وَعَلَى هَذَا فَتَكُونُ الْجُمْلَتَانِ مِنْ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّنْ يَدْعُو إِلَهًا غَيْرَ اللَّهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الضُّرُّ وَالنَّفْعُ مَنْفَيَّانِ عَنِ الْأَصْنَامِ مُثْبَتَانِ لَهَا فِي الْآيَتَيْنِ وَهَذَا تَنَاقُضٌ قُلْتُ: إِذَا حَصَلَ الْمَعْنَى ذَهَبَ هَذَا الْوَهْمُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَفَّهَ الْكَافِرَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ جَمَادًا لَا يَمْلِكُ ضُرًّا وَلَا نَفْعًا وَهُوَ يَعْتَقِدُ فِيهِ بِجَهْلِهِ وَضَلَالَتِهِ أَنَّهُ سَيَنْتَفِعُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُولُ هَذَا الْكَافِرُ بِدُعَاءٍ وَصُرَاخٍ حِينَ يَرَى اسْتِضْرَارَهُ بِالْأَصْنَامِ وَدُخُولَهُ النَّارَ بِعِبَادَتِهَا، وَلَا يَرَى أَثَرَ الشَّفَاعَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا لَهَا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ وَكَرَّرَ يَدْعُو كَأَنَّهُ قال يَدْعُوا يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَما لَا يَنْفَعُهُ ثُمَّ قَالَ لَمَنْ ضَرُّهُ بِكَوْنِهِ مَعْبُودًا أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ بِكَوْنِهِ شَفِيعًا لَبِئْسَ الْمَوْلى انْتَهَى. فَجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ الْمَدْعُوَّ فِي الْآيَتَيْنِ الْأَصْنَامَ وَأَزَالَ التَّعَارُضَ بِاخْتِلَافِ الْقَائِلِينَ بِالْجُمْلَةِ الْأُولَى مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ حَالِ الْأَصْنَامِ. وَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مِنْ كَلَامِ عُبَّادِ الْأَصْنَامِ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ، وَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ ذَلِكَ وَأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا ضُرًّا بِكَوْنِهِمْ عَبَدُوهُ، وَأَثْبَتُوا نَفْعًا بِكَوْنِهِمُ اعْتَقَدُوهُ شَفِيعًا. فَالنَّافِي هُنَاكَ غَيْرُ الْمُثْبِتِ هُنَا، فَزَالَ التَّعَارُضُ عَلَى زَعْمِهِ وَالَّذِي أَقُولُ إِنَّ الصَّنَمَ لَيْسَ لَهُ نَفْعٌ أَلْبَتَّةَ حَتَّى يُقَالَ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ.
وَأَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ زَعْمِ مَنْ زَعَمَ أن ظاهر الْآيَتَيْنِ يَقْتَضِي التَّعَارُضَ بِأَنَّهَا لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ بِأَنْفُسِهَا وَلَكِنَّ عِبَادَتَهَا نَسَبُ الضَّرَرِ إِلَيْهَا كَقَوْلِهِ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «١» أَضَافَ الْإِضْلَالَ إِلَيْهِمْ إِذْ كَانُوا سَبَبَ الضَّلَالِ، فَكَذَا هُنَا نَفْيُ الضَّرَرِ عَنْهُمْ لِكَوْنِهَا لَيْسَتْ فَاعِلَةً ثُمَّ أَضَافَهُ إِلَيْهَا لِكَوْنِهَا سَبَبَ الضَّرَرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى ثُمَّ أَثْبَتَ لَهَا الضُّرَّ وَالنَّفْعَ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى طَرِيقِ التَّسْلِيمِ، أَيْ وَلَوْ سَلَّمْنَا كَوْنَهَا ضَارَّةً نَافِعَةً لَكَانَ ضُرُّهَا أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهَا، وَتَكَلَّفَ الْمُعْرِبُونَ وُجُوهًا فقالوا يَدْعُوا إِمَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِقَوْلِهِ لَمَنْ ضَرُّهُ أَوَّلًا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا تَعَلُّقٌ فَوُجُوهٌ.
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لَفْظِيًّا لِيَدْعُو الْأُولَى، فَلَا يَكُونُ لَهَا مَعْمُولٌ.
الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ عَامِلَةً فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ وَقَدَّمَ الْمَفْعُولُ الَّذِي

(١) سورة إبراهيم: ١٤/ ٣٦.


الصفحة التالية
Icon