فَارِسَ، وَبَحْرُ الرُّومِ. وَقِيلَ: بَحْرُ السَّمَاءِ وَبَحْرُ الْأَرْضِ يَلْتَقِيَانِ فِي كُلِّ عَامٌّ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِيَاهُ الْأَنْهَارِ الْوَاقِعَةُ فِي الْبَحْرِ الْأُجَاجِ وَهَذَا قَرِيبٌ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلُ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْمَقْصِدُ بِالْآيَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ وَإِتْقَانِ خَلْقِهِ لِلْأَشْيَاءِ فِي أَنْ بَثَّ فِي الْأَرْضِ مِيَاهًا عَذْبَةً كَثِيرَةً مِنَ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ وَالْآبَارِ وَجَعَلَهَا خِلَالَ الْأُجَاجِ، وَجَعَلَ الْأُجَاجَ خِلَالَهَا فَتَرَى الْبَحْرَ قَدِ اكْتَنَفَتْهُ الْمِيَاهُ الْعَذْبَةُ فِي ضَفَّتَيْهِ وَيُلْقَى الْمَاءُ الْبَحْرُ فِي الْجَزَائِرِ وَنَحْوِهَا قَدِ اكْتَنَفَهُ الْمَاءُ الْأُجَاجُ، وَالْبَرْزَخُ وَالْحِجْرُ مَا حَجَزَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَرْضِ وَالسَّدِّ قَالَهُ الْحَسَنُ.
وَيَتَمَشَّى هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ إِنَّ مَرَجَ بِمَعْنَى أَجْرَى. وَقِيلَ: الْبَرْزَخُ الْبِلَادُ وَالْقِفَارُ فَلَا يَخْتَلِفَانِ إِلَّا بِزَوَالِ الْحَاجِزِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْأَكْثَرُونَ: الْحَاجِزُ مَانِعٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: فَهُمَا مُخْتَلِطَانِ فِي مَرَائِي الْعَيْنِ مُنْفَصِلَانِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ، وَسَوَادُ الْبَصْرَةِ يَنْحَدِرُ الْمَاءُ الْعَذْبُ مِنْهُ فِي دِجْلَةَ نَحْوَ الْبَحْرِ، وَيَأْتِي الْمَدُّ مِنَ الْبَحْرِ فَيَلْتَقِيَانِ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَاطٍ فَمَاءُ الْبَحْرِ إِلَى الْخُضْرَةِ الشَّدِيدَةِ، وَمَاءُ دِجْلَةَ إِلَى الْحُمْرَةِ، فَالْمُسْتَقِي يَغْرِفُ مِنْ مَاءِ دِجْلَةَ عِنْدَنَا لَا يُخَالِطُهُ شَيْءٌ وَنِيلُ مِصْرَ فِي فَيْضِهِ يَشُقُّ الْبَحْرَ الْمَالِحَ شَقًّا بِحَيْثُ يَبْقَى نَهْرًا جَارِيًا أَحْمَرَ فِي وَسَطِ الْمَالِحِ لِيَسْتَقِيَ النَّاسُ مِنْهُ، وَتُرَى الْمِيَاهُ قِطَعًا فِي وَسَطِ الْبَحْرِ الْمَالِحِ فَيَقُولُونَ: هَذَا مَاءٌ ثَلِجٌ فَيَسْقُونَ مِنْهُ مِنْ وَسَطِ الْبَحْرِ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ وَقُتَيْبَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ مِلْحٌ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَكَذَا فِي فَاطِرٍ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَهَذَا مُنْكَرٌ فِي الْقِرَاءَةِ. وَقَالَ أَبُو الْفَتْحِ أَرَادَ مَالِحًا وَحَذَفَ الْأَلِفَ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ بَرَدٍ أَيْ بَارِدٌ. وَقَالَ أَبُو الْفَضْلِ الرَّازِيُّ فِي كِتَابِ اللَّوَامِحِ: هِيَ لُغَةٌ شَاذَّةٌ قَلِيلَةٌ. وَقِيلَ: أَرَادَ مَالِحٌ فَقَصَرَهُ بِحَذْفِ الْأَلِفِ فَالْمَالِحُ جَائِزٌ فِي صِفَةِ الْمَاءِ لِأَنَّ الْمَاءَ يُوجَدُ فِي الضِّفْيَانِ بِأَنْ يَكُونَ مَمْلُوحًا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ، وَمَالِحًا لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مِنْ صِفَتِهِ أَنْ يُقَالَ: مَاءٌ مِلْحٌ مَوْصُوفٌ بِالْمَصْدَرِ أَيْ مَاءٌ ذُو مِلْحٍ، فَالْوَصْفُ بِذَلِكَ مِثْلُ حِلْفٍ وَنِضْوٍ مِنَ الصِّفَاتِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: حِجْراً مَحْجُوراً مَا مَعْنَاهُ؟ قُلْتُ: هِيَ الْكَلِمَةُ الَّتِي يَقُولُهَا الْمُتَعَوِّذُ وَقَدْ فَسَّرْنَاهَا وَهِيَ هَاهُنَا وَاقِعَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ مُتَعَوِّذٌ مِنْ صَاحِبِهِ وَيَقُولُ لَهُ حِجْراً مَحْجُوراً كَمَا قَالَ لَا يَبْغِيانِ «١» أَيْ لَا ينبغي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْمُمَازَجَةِ، فَانْتِفَاءُ الْبَغْيِ ثَمَّ كَالتَّعَوُّذِ هَاهُنَا جَعَلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صُورَةِ الْبَاغِي عَلَى صَاحِبِهِ فَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُ وَهِيَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِعَارَاتِ وَأَشْهَدِهَا عَلَى الْبَلَاغَةِ انتهى.

(١) سورة الرحمن: ٥٥/ ٢٠.


الصفحة التالية
Icon