إِلَيْهَا هِيَ أَنَّ النَّبَأَ لَا يَكُونُ إِلَّا الْخَبَرَ الَّذِي لَهُ شَأْنٌ، وَلَفْظُ الْخَبَرِ مُطْلَقٌ، يَنْطَلِقُ عَلَى ما له شَأْنٌ وَمَا لَيْسَ لَهُ شَأْنٌ.
وَلَمَّا أَبْهَمَ الْهُدْهُدُ أَوَّلًا، ثُمَّ أَبْهَمَ ثَانِيًا دُونَ ذَلِكَ الْإِبْهَامِ، صَرَّحَ بِمَا كَانَ أَبْهَمَهُ فَقَالَ: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ. وَلَا يَدُلُّ قَوْلُهُ: تَمْلِكُهُمْ عَلَى جَوَازِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَلِكَةً، لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ فِعْلِ قَوْمِ بِلْقِيسَ، وَهُمْ كُفَّارٌ، فَلَا حُجَّةَ فِي ذَلِكَ.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا بِنْتَ كِسْرَى قَالَ: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً».
وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا تَقْضِي فِيمَا تَشْهَدُ فِيهِ، لَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا أَنْ يُكْتَبَ لَهَا مَسْطُورٌ بِأَنَّ فُلَانَةً مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّحَكُّمِ وَالِاسْتِنَابَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ. وَمَعْنَى وَجَدْتُ هُنَا: أَصَبْتُ، وَالضَّمِيرُ فِي تَمْلِكُهُمْ عَائِدٌ عَلَى سَبَأٍ، إِنْ كَانَ أُرِيدَ الْقَبِيلَةُ، وَإِنْ أُرِيدَ الْمَوْضِعُ، فَهُوَ عَلَى حَذْفٍ، أَيْ وَجِئْتُكَ مِنْ أَهْلِ سَبَأٍ.
وَالْمَرْأَةُ بِلْقِيسُ بِنْتُ شَرَاحِيلَ، وَكَانَ أَبُوهَا مَلِكَ الْيَمَنِ كُلِّهَا، وَقَدْ ولد له أَرْبَعُونَ مَلِكًا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ غَيْرُهَا، فَغَلَبَتْ عَلَى الْمُلْكِ، وَكَانَتْ هِيَ وَقَوْمُهَا مَجُوسًا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ. وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِ أَبِيهَا اخْتِلَافًا كَثِيرًا. قِيلَ: وَكَانَتْ أُمُّهَا جِنِّيَّةً تُسَمَّى رَيْحَانَةَ بِنْتَ السَّكَنِ، تَزَوَّجَهَا أَبُوهَا، إِذْ كَانَ مِنْ عِظَمِهِ لَمْ يَرَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ مُلُوكِ زَمَانِهِ، فَوَلَدَتْ لَهُ بِلْقِيسُ، وَقَدْ طَوَّلُوا فِي قَصَصِهَا بِمَا لَمْ يَثْبُتْ فِي الْقُرْآنُ، وَلَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ.
وَبَدَأَ الْهُدْهُدُ بِالْإِخْبَارِ عَنْ مُلْكِهَا، وَأَنَّهَا أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْمَعْنَى: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ احْتَاجَتْ إِلَيْهِ، أَوْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فِي أَرْضِهَا. وَبَيْنَ قَوْلِ الْهُدْهُدِ ذَلِكَ، وَبَيْنَ قَوْلِ سُلَيْمَانَ: وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ فَرْقٌ، وَذَلِكَ أَنَّ سُلَيْمَانَ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ، وَهُوَ مُعْجِزَةٌ، فَيَرْجِعُ أَوَّلًا إِلَى مَا أُوتِيَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ وَأَسْبَابِ الدِّينِ، ثُمَّ إِلَى الْمُلْكِ وَأَسْبَابِ الدُّنْيَا، وَعَطَفَ الْهُدْهُدُ عَلَى الْمُلْكِ، فَلَمْ يُرِدْ إِلَّا مَا أُوتِيَتْ مِنْ أَسْبَابِ الدُّنْيَا اللَّائِقَةِ بِحَالِهَا. وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ مَجْلِسُهَا.
وَقَالَ سُفْيَانُ: هُوَ كُرْسِيُّهَا، وَكَانَ مُرَصَّعًا بِالْجَوَاهِرِ، وَعَلَيْهِ سَبْعَةُ أَبْوَابٍ. وَذَكَرُوا مِنْ وَصْفِ عَرْشِهَا أَشْيَاءَ، اللَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِحَقِيقَةِ ذَلِكَ، وَاسْتِعْظَامُ الْهُدْهُدِ عَرْشَهَا، إِمَّا لِاسْتِصْغَارِ حَالِهَا أَنْ يَكُونَ لَهَا مِثْلُ هَذَا الْعَرْشِ، وَإِمَّا لِأَنَّ سُلَيْمَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلُهُ، وَإِنْ كَانَ عَظِيمَ الْمَمْلَكَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ، لِأَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ لِبَعْضِ أُمَرَاءِ الْأَطْرَافِ شَيْءٌ لَا يَكُونُ لِلْمَلِكِ الَّذِي هُوَ تَحْتَ طَاعَتِهِ.


الصفحة التالية
Icon