وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: كَانَ أَهْلُ الكتاب يقرأون التَّوْرَاةَ بِالْعِبْرَانِيَّةِ، وَيُفَسِّرُونَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ».
وَكَذلِكَ: أَيْ مِثْلُ ذَلِكَ الْإِنْزَالِ الَّذِي لِلْكُتُبِ السَّابِقَةِ، أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ: أَيِ الْقُرْآنَ. فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ هُمْ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ. وَمِنْ هؤُلاءِ: أَيْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَقِيلَ: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ: أَيِ الَّذِينَ تقدموا عهد الرسول، يُؤْمِنُونَ بِهِ: أَيْ بِالْقُرْآنِ، إِذْ هُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَمِنْ هؤُلاءِ: أَيْ مِمَّنْ فِي عَهْدِهِ مِنْهُمْ. وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا، مَعَ ظُهُورِهَا وَزَوَالِ الشُّبْهَةِ عَنْهَا، إِلَّا الْكافِرُونَ: أَيْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ أَهْلُ الكتاب يقرأون فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ مُحَمَّدًا عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يَخُطُّ وَلَا يَقْرَأُ كِتَابًا، فَنَزَلَتْ
: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ: أَيْ مِنْ قَبْلِ نُزُولِهِ عَلَيْكَ، مِنْ كِتابٍ:
أي كتابا، ومن زَائِدَةٌ لِأَنَّهَا فِي مُتَعَلَّقِ النَّفْيِ، وَلا تَخُطُّهُ: أَيْ لَا تَقْرَأُ وَلَا تَكْتُبُ، بِيَمِينِكَ: وَهِيَ الْجَارِحَةُ الَّتِي يُكْتَبُ بِهَا، وَذِكْرُهَا زِيَادَةُ تَصْوِيرٍ لِمَا نُفِيَ عَنْهُ مِنَ الْكِتَابَةِ، لَمَّا ذَكَرَ إِنْزَالَ الْكِتَابِ عَلَيْهِ، مُتَضَمَّنًا مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالْإِخْبَارِ عَنِ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَالْأُمُورِ الْمَغِيبَةِ مَا أَعْجَزَ الْبَشَرَ أَنْ يَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ. أَخَذَ يُحَقِّقُ، كَوْنُهُ نَازِلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، بِأَنَّهُ ظَهَرَ عَنْ رَجُلٍ أُمِّيٌّ، لَا يَقْرَأُ وَلَا يَكْتُبُ، وَلَا يُخَالِطُ أَهْلَ الْعِلْمِ. وَظُهُورُ هَذَا الْقُرْآنِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ أَعْظَمُ دَلِيلٍ عَلَى صِدْقِهِ، وَأَكْثَرُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكْتُبْ قَطُّ، وَلَمْ يَقْرَأْ بِالنَّظَرِ فِي كِتَابٍ.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَتَّى كَتَبَ وَأَسْنَدَ النِّقَاشَ.
حَدِيثُ أَبِي كَبْشَةَ السَّلُولِيِّ: أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قرأ صحيفة لعيينة ابن حِصْنٍ وَأَخْبَرَ بِمَعْنَاهَا.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مَا ظَاهِرُهُ: أَنَّهُ كَتَبَ مُبَاشَرَةً
، وَقَدْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ، مِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْهَرَوِيُّ، وَالْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُمَا. وَاشْتَدَّ نَكِيرُ كَثِيرٍ مِنْ عُلَمَاءِ بِلَادِنَا عَلَى أَبِي الْوَلِيدِ الْبَاجِيِّ، حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يَسُبُّهُ وَيَطْعَنُ فِيهِ عَلَى الْمِنْبَرِ. وَتَأَوَّلَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: أَمَرَ بِالْكِتَابَةِ، كَمَا تَقُولُ: كَتَبَ السُّلْطَانُ لِفُلَانٍ بِكَذَا، أَيْ أَمَرَ بِالْكَتْبِ. إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ: أَيْ لَوْ كَانَ يَقْرَأُ كُتُبًا قَبْلَ نُزُولِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، أَوْ يَكْتُبُ، لَحَصَلَتِ الريبة للمبطلين، إذ كَانُوا يَقُولُونَ: حَصَلَ ذَلِكَ الَّذِي يَتْلُوهُ مِمَّا قَرَأَهُ، قِيلَ: وَخَطَّهُ وَاسْتَحْفَظَهُ فَكَانَ يَكُونُ لَهُمْ فِي ارْتِيَابِهِمْ تَعَلُّقٌ بِبَعْضِ شُبْهَةٍ، وَأَمَّا