هَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «١» وَقَالَ الضَّحَّاكُ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ وَلا نُشُوراً «٢» فَهُوَ مَكِّيٌّ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ وُجُوبَ مُبَايَعَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِلرَّسُولِ وَأَنَّهُمْ إِذَا كَانُوا مَعَهُ فِي أَمْرٍ مُهِمٍّ تَوَقَّفَ انْفِصَالُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى إِذْنِهِ وَحَذَّرَ مَنْ يُخَالِفُ أَمْرَهُ وَذَكَرَ أَنَّ لَهُ مُلْكَ السموات وَالْأَرْضِ وَأَنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ وَمُجَازِيهِمْ عَلَى ذَلِكَ، فَكَانَ ذَلِكَ غَايَةً فِي التَّحْذِيرِ وَالْإِنْذَارِ نَاسَبَ أَنْ يَفْتَتِحَ هَذِهِ السُّورَةَ بِأَنَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ فِي صِفَاتِهِ عَنِ النَّقَائِصِ كَثِيرُ الْخَيْرِ، وَمِنْ خَيْرِهِ أَنَّهُ نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلَى رَسُولِهِ مُنْذِرًا لَهُمْ فَكَانَ فِي ذَلِكَ إِطْمَاعٌ فِي خيره وتحذير من عقابه. وتَبارَكَ تَفَاعَلَ مُطَاوِعُ بَارَكَ وَهُوَ فِعْلٌ لَا يَتَصَرَّفُ وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى فَلَا يَجِيءُ مِنْهُ مُضَارِعٌ وَلَا اسْمُ فَاعِلٍ وَلَا مَصْدَرٌ. وَقَالَ الطِّرِمَّاحُ:

تَبَارَكْتَ لَا مُعْطٍ لِشَيْءٍ مَنَعْتَهُ وَلَيْسَ لِمَا أَعْطَيْتَ يَا رَبِّ مَانِعُ
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزُولُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: تَمَجَّدَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَعَظَّمَ. وَحَكَى الأصمعي تبارك عَلَيْكُمْ مِنْ قَوْلِ عَرَبِيٍّ صَعِدَ رَابِيَةً فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ ذَلِكَ، أَيْ تَعَالَيْتُ وَارْتَفَعْتُ. فَفِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ تَكُونُ صِفَةُ ذَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ: هو من البركة وهي التَّزَايُدُ فِي الْخَيْرِ مِنْ قِبَلِهِ، فَالْمَعْنَى زَادَ خَيْرُهُ وَعَطَاؤُهُ وَكَثُرَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ صِفَةَ فِعْلٍ وَجَاءَ الْفِعْلُ مُسْنَدًا إِلَى الَّذِي وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لَا يُقِرُّونَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى إِعْجَازِهِ فَصَارَتِ الصِّلَةُ مَعْلُومَةً بِحَسَبِ الدَّلِيلِ، وَإِنْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ فِي آلِ عِمْرَانَ لِمَ سُمِّيَ الْقُرْآنُ فُرْقَانًا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عَلى عَبْدِهِ وَهُوَ الرَّسُولُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَلَى عِبَادِهِ أَيِ الرَّسُولِ وَأُمَّتِهِ كَمَا قَالَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ «٣» وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا «٤» وَيَبْعُدُ أَنْ يُرَادَ بِالْقُرْآنِ
(١) سورة الفرقان: ٢٥/ ٦٨- ٧٠.
(٢) سورة الفرقان: ٢٥/ ٣.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ١٠. [.....]
(٤) سورة البقرة: ٢/ ١٣٦.


الصفحة التالية
Icon