هُوَ الْمَلَكُ الْمُتَوَسِّطُ، فَيَصِحُّ أَنَّ التَّقَاوُلَ بَيْنَ الْمَلَائِكَةِ وَآدَمَ وَإِبْلِيسَ، وَهُمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى وَالْمُرَادُ بِالِاخْتِصَامِ: التَّقَاوُلُ. وَقِيلَ: الْمَلَأُ الْأَعْلَى: الْمَلَائِكَةُ، وإذ يَخْتَصِمُونَ: الضَّمِيرُ فِيهِ لِلْعَرَبِ الْكَافِرِينَ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هِيَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَبَعْضُهُمْ: آلِهَةٌ تُعْبَدُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ.
إِنْ يُوحى إِلَيَّ: أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ، إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ: أَيْ لِلْإِنْذَارِ، حَذَفَ اللَّامَ وَوَصَلَ الْفِعْلَ وَالْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرًا يَدُلُّ عَلَيْهِ، الْمَعْنَى، أَيْ إِنْ يُوحَى إِلَيَّ هُوَ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَّا الْإِنْذَارُ، وَأُقِيمَ إِلِيَّ مَقَامَهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِنَّمَا هُوَ الْمَفْعُولُ الَّذِي لَمْ يسم فَاعِلُهُ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا الْإِنْذَارُ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِلَّا إِنَّمَا، بِكَسْرِ هَمْزَةِ إِنَّمَا عَلَى الْحِكَايَةِ، أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا هَذِهِ الْجُمْلَةُ، كَأَنْ قِيلَ لَهُ: أَنْتَ نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَحَكَى هُوَ الْمَعْنَى، وَهَذَا كَمَا يَقُولُ الْإِنْسَانُ: أَنَا عَالِمٌ، فَيُقَالُ لَهُ: قُلْتَ إِنَّكَ عَالِمٌ، فَيُحْكَى الْمَعْنَى. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وقرىء إِنَّمَا بِالْكَسْرِ عَلَى الْحِكَايَةِ، أي إلا هَذَا الْقَوْلِ، وَهُوَ أَنْ أَقُولَ لَكُمْ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، فَلَا أَدَّعِي شَيْئًا آخَرَ. انْتَهَى. فِي تَخْرِيجِهِ تَعَارُضٌ، لِأَنَّهُ قَالَ: أَيْ إِلَّا هَذَا الْقَوْلَ، فَظَاهِرُهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي هِيَ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ أَنْ أَقُولَ لَكُمْ إِنِّي نَذِيرٌ، فَالْمَقَامُ مَقَامُ الْفَاعِلِ هُوَ أَنْ أَقُولَ لَكُمْ، وَأَنْ وَمَا بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَعَلَى قَوْلِهِ: إِلَّا هَذَا الْقَوْلِ، يَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ فَيَتَعَارَضَا. وَتَقَدَّمَ أَنَّ، إِذْ قَالَ بَدَلٌ مِنْ: إِذْ يَخْتَصِمُونَ، هَذَا إِذَا كَانَتِ الْخُصُومَةُ فِي شَأْنِ مَنْ يُسْتَخْلَفُ فِي الْأَرْضِ، وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ يَكُونُ مَنْصُوبًا بِاذْكُرْ.
وَلَمَّا كَانَتْ قُرَيْشٌ، خَالَفُوا الرَّسُولَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِسَبَبِ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ. ذَكَرَ حَالَ إِبْلِيسَ، حَيْثُ خَالَفَ أَمْرَ اللَّهِ بِسَبَبِ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَمَا آلَ إِلَيْهِ مِنَ اللَّعْنَةِ وَالطَّرْدِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، لِيَزْدَجِرَ عَنْ ذَلِكَ مَنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْهُمَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ صَحَّ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً، وَمَا عَرَفُوا مَا الْبَشَرُ وَلَا عَهِدُوا بِهِ قَبْلُ؟ قُلْتُ: وَجْهُهُ أَنْ يَكُونَ قَدْ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي خَالِقٌ خَلْقًا مِنْ صِفَةِ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَلَكِنَّهُ حِينَ حَكَاهُ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْمِ. انْتَهَى. وَالْبَشَرُ هُوَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ، وَفِي آلِ عِمْرَانَ:
خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ «١»، وَفِي الْحِجْرِ: مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ «٢»، وَفِي الْأَنْبِيَاءِ:
مِنْ عَجَلٍ «٣» وَلَا مُنَافَاةَ فِي تِلْكَ الْمَادَّةِ الْبَعِيدَةِ، وَهِيَ التُّرَابُ، ثُمَّ مَا يَلِيهِ وَهُوَ الطِّينُ،

(١) سورة آل عمران: ٣/ ٥٩.
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٢٦.
(٣) سورة الأنبياء: ٢١/ ٣٧.


الصفحة التالية
Icon