لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الدُّعَاءَ إِلَى دِينِ اللَّهِ أَعْظَمُ الْقُرُبَاتِ، وَأَنَّهُ يُحْصُلُ ذَلِكَ بِذِكْرِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالْعَدْلِ وَالْبَعْثِ، عَادَ إِلَى تَهْدِيدِ مَنْ يُنَازِعُ فِي تِلْكَ الْآيَاتِ وَيُجَادِلُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الْإِلْحَادِ فِي قَوْلِهِ: وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ «١»، وَذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْهِ، وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ لَهُمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُنَا الْإِلْحَادُ: التَّكْذِيبُ، وَمُجَاهِدٌ: الْمُكَاءُ وَالصَّفِيرُ وَاللَّغْوُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَضْعُ الْكَلَامِ غَيْرَ مَوْضِعِهِ. وَقَالَ أَبُو مَالِكٍ: يَمِيلُونَ عَنْ آيَاتِنَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُعَانِدُونَ رُسُلَنَا فِيمَا جَاءُوا فِيهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْآيَاتِ. ثُمَّ اسْتَفْهَمَ تَقْرِيرًا: أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ، بِإِلْحَادِهِ فِي آيَاتِنَا، خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً، وَلَا اشْتِرَاكَ بَيْنَ الْإِلْقَاءِ فِي النَّارِ وَالْإِتْيَانِ آمِنًا، لَكِنَّهُ، كَمَا قُلْنَا، اسْتِفْهَامُ تَقْرِيرٍ، كَمَا يُقِرِّرُ الْمَنَاظِرُ خَصْمَهُ عَلَى وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا فَاسِدٌ يَرْجُو أَنْ يَقَعَ فِي الْفَاسِدِ فَيَتَّضِحُ جَهْلُهُ، وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: يُلْقى فِي النَّارِ عَلَى مُسْتَقَرِّ الْأَمْرِ، وَهُوَ الْجَنَّةُ، وَبِقَوْلِهِ: آمِناً عَلَى خَوْفِ الْكَافِرِ وَطُولِ وَجَلِهِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ، قَالَ ابْنُ بَحْرٍ: عَامَّةٌ فِي كُلِّ كَافِرٍ وَمُؤْمِنٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ. وَقِيلَ: فِيهِ وَفِي عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ. وَقِيلَ: فِيهِ وَفِي عُمَرَ. وَقِيلَ: فِي أَبِي جَهْلٍ وَحَمْزَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَأَبُو جَهْلٍ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْإِلْحَادِ، نَاسَبَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ مِنَ التَّقْرِيرِ مَنِ اتَّصَفَ بِهِ. وَلَمْ يَكُنِ التَّرْكِيبُ: أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ، كَمَا قَدَّمَ مَا يُشْبِهُهُ فِي قَوْلِهِ:
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى «٢»، وَكَمَا جَاءَ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ: أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ «٣». اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ:
وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ، وَلِذَا جَاءَ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فَيُجَازِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ: هُمْ قُرَيْشٌ وَمَنْ تَابَعَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ غَيْرُهُمْ، وَالذِّكْرُ: الْقُرْآنُ هُوَ بِإِجْمَاعٍ، وَخَبَرُ إِنَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ أَمَذْكُورٌ هُوَ أَوْ مَحْذُوفٌ؟ فَقِيلَ: مَذْكُورٌ، وَهُوَ قَوْلُهُ: أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ فِي حِكَايَةٍ جَرَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بِلَالِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ. سُئِلَ بِلَالٌ فِي مَجْلِسِهِ عَنْ هَذَا فَقَالَ: لَمْ أَجِدْ لَهَا نَفَاذًا، فَقَالَ لَهُ أبو عمرو: إنه مِنْكَ لِقَرِيبٌ أُولئِكَ يُنادَوْنَ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَيَرُدُّ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَثْرَةُ الْفَصْلِ، وَأَنَّهُ ذَكَرَ هُنَاكَ مَنْ تَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ

(١) سورة الأعراف: ٧/ ١٨٠.
(٢) سورة الرعد: ١٣/ ١٩.
(٣) سورة محمد: ٤٧/ ١٤.


الصفحة التالية
Icon