يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ: مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، لِأَنَّهُ لَا يَغْفِرُ بِالْإِيمَانِ ذُنُوبَ الْمَظَالِمِ، قَالَ مَعْنَاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ: مِنْ زَائِدَةٌ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، فَلَا يَبْقَى مَعَهُ تَبِعَةٌ.
وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ: وَهَذَا كُلُّهُ وَظَوَاهِرُ الْقُرْآنِ تَدُلُّ عَلَى الثَّوَابِ، وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَهُمْ ثَوَابٌ وَعَلَيْهِمْ عِقَابٌ، يَلْتَقُونَ فِي الْجَنَّةِ وَيَزْدَحِمُونَ عَلَى أَبْوَابِهَا. وَقِيلَ:
لَا ثَوَابَ لَهَا إِلَّا النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ، وَإِلَيْهِ كَانَ يَذْهَبُ أَبُو حَنِيفَةَ. فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ:
أَيْ بِفَائِتٍ مِنْ عِقَابِهِ، إِذْ لَا مَنْجَا مِنْهُ، وَلَا مَهْرَبَ، كَقَوْلِهِ: وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً «١». وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: وَلَيْسَ لَهُمْ بِزِيَادَةِ مِيمٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ:
وَلَمْ يَعْيَ، مُضَارِعَ عَيِيَ، عَلَى وَزْنِ فَعِلَ، بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالْحَسَنُ: وَلَمْ يَعِي، بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْيَاءِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ فِي الْمَاضِي فُتِحَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ، كَمَا قَالُوا فِي بَقِيَ: بقا، وهي لغة لطيئ. وَلَمَّا بُنِيَ الْمَاضِي عَلَى فَعَلَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ، بُنِيَ مُضَارِعُهُ عَلَى يَفْعِلُ بِكَسْرِ الْعَيْنِ، فجاء يعني. فَلَمَّا دَخَلَ الْجَازِمُ، حَذَفَ الْيَاءَ، فَبَقِيَ يَعْيَ بِنَقْلِ حَرَكَةِ الْيَاءِ إِلَى الْعَيْنِ، فَسَكَنَتِ الْيَاءُ وَبَقِيَ يَعِي. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: بِقادِرٍ: اسْمَ فَاعِلٍ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ فِي خَبَرِ أَنَّ، وَحَسَّنَ زِيَادَتِهَا كَوْنُ مَا قَبْلَهَا فِي حَيِّزِ النَّفْيِ. وَقَدْ أَجَازَ الزَّجَّاجُ: مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا بِقَائِمٍ، قِيَاسًا عَلَى هَذَا، وَالصَّحِيحُ قَصْرُ ذَلِكَ عَلَى السَّمَاعِ، فَكَأَنَّهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: أَلَيْسَ اللَّهُ بِقَادِرٍ؟
أَلَا تَرَى كَيْفَ جَاءَ بِبَلَى مُقَرِّرًا لِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى لَا لِرُؤْيَتِهِمْ؟ وَقَرَأَ الْجَحْدَرِيُّ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، وَعِيسَى، وَالْأَعْرَجُ: بِخِلَافٍ عَنْهُ وَيَعْقُوبُ: يُقَدِّرُ مُضَارِعًا.
أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ: أَيْ يُقَالُ لَهُمْ، وَالْإِشَارَةُ بِهَذَا إِلَى الْعَذَابِ. أَيْ كُنْتُمْ تُكَذِّبُونَ بِأَنَّكُمْ تُعَذَّبُونَ، وَالْمَعْنَى: تَوْبِيخُهُمْ عَلَى اسْتِهْزَائِهِمْ بِوَعْدِ اللَّهِ وَوَعِيدِهِ وَقَوْلِهِمْ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «٢». قالُوا بَلى وَرَبِّنا، تَصْدِيقٌ حَيْثُ لَا يَنْفَعُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهُمْ لَيُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ وَهُمْ رَاضُونَ بِذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ، يَعْتَرِفُونَ أَنَّهُ الْعَدْلُ، فَيَقُولُ لَهُمُ الْمُجَاوِبُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عِنْدَ ذَلِكَ: فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ. فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ: الْفَاءُ عَاطِفَةٌ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ أَخْبَارِ الْكُفَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى بَيْنَهُمَا مُرْتَبِطٌ: أَيْ هَذِهِ حَالُهُمْ مَعَ اللَّهِ. فَلَا تَسْتَعْجِلْ أَنْتَ وَاصْبِرْ، وَلَا تَخَفْ إِلَّا اللَّهَ. وَأُولُو الْعَزْمِ: أَيْ أُولُو الْجِدِّ مِنَ الرُّسُلِ، وَهُمْ مَنْ حُفِظَ لَهُ شِدَّةٌ مَعَ قَوْمِهِ وَمُجَاهَدَةٌ. فَتَكُونُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ للبيان، أي الذين هم الرُّسُلُ، وَيَكُونُ الرُّسُلُ كُلُّهُمْ أولي
(٢) سورة الشعراء: ٢٦/ ١٣٨، وسورة سبأ: ٣٤/ ٣٥، وسورة الصافات: ٣٧/ ٥٩.