أُولَئِكَ الْأَعْرَابُ أَنَّهُ يَسْتَقْبِلُ عَدُوًّا عَظِيمًا مِنْ قُرَيْشٍ وَثَقِيفٍ وَكِنَانَةَ وَالْقَبَائِلِ وَالْمُجَاوِرِينَ بمكة، وهو الْأَحَابِيشُ وَلَمْ يَكُنِ الْإِيمَانُ تَمَكَّنَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَقَعَدُوا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَخَلَّفُوا وَقَالُوا: لَنْ يَرْجِعَ مُحَمَّدٌ وَلَا أَصْحَابُهُ مِنْ هَذِهِ السَّفْرَةِ، فَفَضَحَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَعْلَمَ رسوله ﷺ بِقَوْلِهِمْ وَاعْتِذَارِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِمْ، فَكَانَ كَذَلِكَ.
شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا: وَهَذَا اعْتِلَالٌ مِنْهُمْ عَنْ تَخَلُّفِهِمْ أَيْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَنْ يَقُومُ بِحِفْظِ أَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ غَيْرُهُمْ، وبدأوا بِذِكْرِ الْأَمْوَالِ، لِأَنَّ بِهَا قَوَامَ الْعَيْشِ وَعَطَفُوا الْأَهْلَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُحَافِظُونَ عَلَى حِفْظِ الْأَهْلِ أَكْثَرَ مِنْ حفظ المال. وقرىء:
شَغَلَتْنَا، بِتَشْدِيدِ الْغَيْنِ، حَكَاهُ الْكِسَائِيُّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ نُوحِ بْنِ بَاذَانَ، عَنْ قُتَيْبَةَ.
وَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ التَّخَلُّفَ عَنِ الرسول كَانَ مَعْصِيَةً، سَأَلُوا أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهُمْ. يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الْجُمْلَتَيْنِ الْمَقُولَتَيْنِ مِنَ الشُّغْلِ وَطَلَبِ الِاسْتِغْفَارِ، لِأَنَّ قَوْلَهُمْ: شَغَلَتْنَا، كَذِبٌ وَطَلَبُ الِاسْتِغْفَارِ: خُبْثٌ مِنْهُمْ وَإِظْهَارٌ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ عَاصُونَ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِمْ: فَاسْتَغْفِرْ لَنَا، يُرِيدُ أَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ مُصَانَعَةً مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَلَا نَدَمٍ.
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ: أَيْ مَنْ يَمْنَعُكُمْ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ؟ إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا: مِنْ قَتْلٍ أَوْ هَزِيمَةٍ، أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً، مِنْ ظَفَرٍ وَغَنِيمَةٍ؟ أَيْ هُوَ تَعَالَى الْمُتَصَرِّفُ فِيكُمْ، وَلَيْسَ حِفْظُكُمْ أَمْوَالَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ بِمَانِعٍ مِنْ ضَيَاعِهَا إِذَا أَرَادَهُ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ضَرًّا، بِفَتْحِ الضَّادِ وَالْأَخَوَانِ: بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى لَهُمُ الْعِلَّةَ فِي تَخَلُّفِهِمْ، وَهِيَ ظَنُّهُمْ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَهْلِ، وَكَيْفَ جُمِعَ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ فِي قَوْلِهِ: مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ «١». وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ:
إِلَى أَهْلِهِمْ، بِغَيْرِ يَاءٍ وَزُيِّنَ، قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، وَالْفَاعِلُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقِيلَ غَيْرُهُ مِمَّنْ نُسِبَ إِلَيْهِ التَّزْيِينُ مَجَازًا. وقرىء: وَزَيَّنَ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ. وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ:
احْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الظَّنَّ السَّابِقَ، وَهُوَ ظَنُّهُمْ أَنْ لَا يَنْقَلِبُوا، وَيَكُونَ قَدْ سَاءَهُمْ ذَلِكَ الظَّنُّ وَأَحْزَنَهُمْ حَيْثُ أَخْلَفَ ظَنَّهُمْ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ لِأَجْلِ الْعَطْفِ، أَيْ ظَنَنْتُمْ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْلِفُ وَعْدَهُ فِي نَصْرِ دِينِهِ وَإِعْزَازِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بُوراً: هَلْكَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَصْدَرٌ كَالْهُلْكِ، وَلِذَلِكَ وُصِفَ بِهِ الْمُفْرَدُ الْمُذَكَّرُ، كَقَوْلِ ابْنِ الزبعري: