على قدر أهوائها باطلاً كبيراً. فكما أن السيل يجمع كل قذر، كذلك الأهواء تحتمل الباطل، وكما أن الزبد لا وزن له، فكذلك الباطل لا ثواب له. فذلك قوله: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً يعني: يذهب كما جاء. ويقال يذهب: جُفاءً أي سريعاً. وقال مقاتل: جُفاءً أي: يابساً فلا ينتفع به، ويقذفه السيل. وقال القتبي: الجفاء ما رمى به الوادي في جنباته. ويقال: جفأت القدر بزبدها، إذا ألقته عنها وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ يعني: يبقى الماء الصافي في الأرض، فكذلك الإيمان واليقين ينتفع به أهله في الآخرة، كما ينتفع بالماء الصافي في الدنيا، والباطل لا ينتفع به لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ثم ضرب مثلاً آخر بالذهب والفضة، فقال تعالى: وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ من الذهب والفضة ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ يعني: التماس حِلْيَةٍ تلبسونها، يخرج منها الخبث، ويبقى الذهب والفضة خالصاً.
ثم ضرب مثلاً آخر فقال: أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ يعني: النحاس والحديد والصفر يزول عنها الخبث، ويبقى الصفر والحديد خالصاً، فيتخذ منها المتاع. فهذه ثلاثة أمثال ضربها الله تعالى في مثل واحد، كما يضمحل هذا الزبد، ويبقى خالص الماء، وخالص الذهب والفضة والحديد والصفر فكذلك يضمحل الباطل عن أهله. وكما يمكث الماء في الأرض ويخرج نباتها، وكما يبقى خالص الذهب والفضة حين يدخلان النار، فكذلك يبقى الحق وثوابه لصاحبه. وقال القتبي في قوله: فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً قال: هذا مثل ضربه الله تعالى للحق والباطل. يقول الحق: الباطل وإن ظهر على الحق في بعض الأحوال وعلا، فإن الله سيمحقه ويبطله، ويجعل العاقبة للحق وأهله، مثل مطر سال في الأودية بقدرها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً أي: عالياً على الماء كما يعلو الباطل تارة على الحق. ومن جواهر الأرض التي تدخل الكور، توقدون عليها، يعني: الذهب والفضة للحلية. أَوْ مَتاعٍ يعني: الشبه والحديد والآنك يكون للآنية، له خبث يعلوها مثل زبد الماء. فأما الزبد، فيذهب جفاء يتعلق بأصول الشجر، وكنبات الوادي، وكذلك خبث الفلز يعني: الجوهر يقذفه، فهذا مثل الباطل. وأما ما ينفع الناس وينبت المرعى، فيمكث في الأرض. فكذلك الصفر من الفلز يبقى صالحاً فهو مثل الحق.
ثم قال: كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ على وجه التقديم والتأخير. يعني: هكذا يضرب الله المثل للحق والباطل. ويقال: معناه هكذا يبيّن الله الحق من الباطل فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ على معنى التقديم والتأخير، وقد ذكرناه من قبل كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ يعني: يبيّن الله الأشباه، ويوضح الطريق، ويقيم الحجة.
[سورة الرعد (١٣) : آية ١٨]
لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨)