ثم قال الله تعالى: إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا، يعني: اذكروا هذه النعمة إذ كنتم بالعدوة الدنيا. قرأ ابن كثير وأبو عمرو بِالْعُدْوَةِ بالكسر، وقرأ الباقون بالضم ومعناهما واحد وهو:
شفير الوادي. ويقال عِدْوَةِ الوادي وعُدْوَتِهِ، يعني: كنتم على شاطئ الوادي مما يلي المدينة.
وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى، يعني: من الجانب الآخر مما يلي مكة، وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ يعني: العير أسفل منكم بثلاثة أميال على شاطئ البحر حين أقبلوا من الشام. وَلَوْ تَواعَدْتُمْ، أنتم والمشركون بالإجماع للقتال، لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أنتم والمشركون، وَلكِنْ جمع الله بينكم على غير ميعاد، لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا يعني: كائناً. وكان من قضائه هزيمة الكفار، ونصرة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه.
قوله تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ. يقول: ليكفر من أراد أن يكفر بعد البيان له من الله تعالى، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ، يقول: ويؤمن من أراد أن يؤمن بعد البيان له من الله تعالى. وقال الكلبي: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ على الكفر بعد البيان، وَيَحْيى مَنْ حَيَّ بالإيمان عَنْ بَيِّنَةٍ ويقال: هذا وعيد من الله لأهل مكة يقول: ليقم على كفره من أراد أن يقيم بعد ما بينت له الحق ببدر، حين فرقت الحق من الباطل، وَيَحْيى يعني: يقم على الإيمان من أراد أن يقيم بعد ما أرسلت إليه الرسول، وأقمت عليه الحجة. قرأ نافع وعاصم في رواية أبي بكر، وابن كثير في رواية شبل البزي مِنْ حيي بإظهار الياءين، والباقون بياء واحدة، وأصله بياءين، إلا أن أحد الحرفين أدغم في الآخر، لأنهما من جنس واحد. ثم قال: وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
قوله تعالى: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا وذلك أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم رأى في المنام أن العدو قليل قبل أن يلتقوا، فأخبر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أصحابه بما رأى في المنام: أن العدو قليل، فقالوا:
رؤيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حق، والقوم القليل. فلما التقوا ببدر، قلَّل الله المشركين في أعين المؤمنين لتصديق رؤيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
ثم قال: وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ، يعني: لجبنتم وتركتم الصف، وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ يعني: اختلفتم في أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ، يعني: ولكن الله أتمّ للمسلمين أمرهم على عدوهم، ويقال: سَلَّمَ يعني: قضى بالهزيمة على الكفار والنصرة للمؤمنين، ويقال: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا يعني: في عينك، لأن العين موضع النوم، في موضع منامك. وروي عن الحسن قال: معناه في عينيك التي تنام بها. ثم قال: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.