الوحي يستشيرهما في فراق أهله. فأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: «لم يضيق الله عليك، والنساء كثير فاستبدل». وأما أسامة بن زيد رضي الله عنه، فأشار عليه بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم في نفسه من الود. فقال: «يا رسول الله، ما علمت منها إلا خيراً، فلا تعجل وانظر واسأل أهلك». قالت: فسأل حفصة بنت عمر عنها، فقالت: «يا رسول الله، ما رأيت عليها سوءاً قط». وسأل زينب بنت جحش، فقالت مثل ذلك، وسأل بَرِيرَةُ: «هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يُرِيبُكِ مِنْ أَمْرِ عَائِشَةَ؟» قالت له بريرة: «والذي بعثك بالحق نبياً، ما رأيت عليها أمراً قط أغمضه عليها، غير أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها، فتأتي الداجن فتأكله».
قالت: فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى دخل علي، وعندي أبواي، فحمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: «يا عَائِشَةُ، لَقَدْ بَلَغَكِ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَإنْ كَانَ مَا يَكُونُ مِنْكِ زلّة ممّا يَكُونُ مِنَ النَّاسِ، فَتُوبي إلى الله تَعَالَى، فإنَّ الله يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ، فَإنَّ العَبْدَ إذا اعْتَرَفَ بِذَنْبِهِ ثُمَّ تَابَ، تَابَ الله عَلَيْهِ». فانتظرت أبويَّ أن يجيبا عني فلم يفعلا، فقلت: يا أبت أجبه، فقال: ماذا أقول؟
فقلت: يا أماه أجيبيه. فقالت: ماذا أقول؟ ثم استعبرت فبكيت، فقلت: لا والله لا أتوب مما ذكروني به، وإني لأعلم أنني لو أقررت بما يقول الناس لقلت وأنا منه بريئة، ولا أقول فيما لم يكن حقاً. ولئن أنكرت، فلا تصدقني.
قالت: ثم أنسيت اسم يعقوب، فلم أذكره، فقلت: ولكني أقول كما قال العبد الصالح أبو يوسف فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ [يوسف: ١٨] قالت: فو الله ما برح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، حتى تغشاه من الله ما كان يغشاه. قالت: أنا والله حينئذ أعلم أني بريئة، وأن الله عز وجل يبرئني ببراءتي، ولكني والله ما كنت أظن أن ينزل الله في شأني وحياً يتلى، ولساني كان أحقر من أن يتكلم الله تعالى فيَّ بقرآن يقرأ به في المساجد، ولكنني كنت أرجو أن يرى النبي صلّى الله عليه وسلّم في منامه شيئاً ببراءتي فلما سري عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو يضحك، كان أول كلمة تكلم بها أن قال: «يا عَائِشَةُ أبْشِرِي، أَمَا والله فَقَدْ بَرَّأَكِ الله تَعَالَى». فقالت لي أمي: قومي إليه.
فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله تعالى، هو الذي أنزل براءتي» «١».
وفي رواية قالت: «أحمد الله تعالى وأذمكم. قالت: فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فصعد المنبر، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال: «يا أيُّها النَّاسُ مَنْ يُعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَنِي أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي برَجُلٍ ما رَأَيْتُ عَلَيْهِ سُوءاً قَطُّ، وَلا دَخَلَ على أهْلِي إلاَّ وأنَا مَعَهُ». فقام سعد بن معاذ، فقال: أخبرنا يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من هو؟ فإن يكن من الأوس نقتله، وإن يكن من الخزرج نرى فيه رأياً، أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام سعد بن عبادة، وهو سيد الخزرج، وكان رجلا صالحا،
٦/ ١٩٤- ١٩٧ والبيهقي: ٧/ ٣٠٢.