كان لا يقدم من سفر إلا صنع طعاماً، وكان يدعو إلى الطعام من أهل مكة من أحب وأراد، وكان يكثر مجالسة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويعجبه حديثه. فقدم ذات يوم من سفره وصنع طعاماً، ودعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى طعامه، فأتاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما قدم الطعام إليه، فأبى أن يأكل وقال: ما أنا بالذي آكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وكان عندهم من العار أن يخرج من عندهم أحدهم قبل أن يأكل شيئاً، فألح على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يأكل، فلم يأكل، فشهد بذلك عقبة، فأكل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من طعامه، وكان أبيُّ بن خلف الجمحي غائباً، وكان خليله، فلما قدم أخبر ذلك، فأتاه فقال: صبوت يا عقبة. فقال: لا والله ما صبوت، ولكن دخل علي رجل فأبى أن يأكل من طعامي إلا أن أشهد له، فاستحييت أن يخرج من بيتي قبل أن يطعم، فشهدت، فطعم. فقال له: ما أنا بالذي أرضى عنك أبداً حتى تأتيه، فتبزق في وجهه، وتشتمه وتكذبه، ففعل ذلك «١». فنزلت هذه الآية: وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ يعني: عقبة عَلى يَدَيْهِ يعني: على أنامله.
وروي عن أنس بن مالك أنه قال: يعض عقبة بن أبي معيط على يديه يوم القيامة، فيأكل لحم يديه حتى يبلغ العضد من الندامة، وهو يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يعني:
اتخذت طريق الهدى، وكنت معه على الإسلام.
قوله عز وجل: يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا يعني: أبيَّ بن خلف. ويقال: إنما قال فُلاناً ولم يذكر اسمه لحقارته لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ يعني: عن الإيمان بَعْدَ إِذْ جاءَنِي أي حين جاءني ويقال: إنه لم يذكر اسمه، لأنه دخل فيه جميع الظالمين، لأن مَنْ صَنَع مِثْلَ هَذَا الصَّنِيع يكون هذا جزاؤه، وقتل عقبة يوم بدر صبراً، وقتل أبيُّ بن خلف يوم أحد ويقال لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا، يعني: الشيطان بدليل قوله عز وجل: وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا يعني: يتبرأ منه يوم القيامة، ونزل فيه: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ [الزخرف:
٦٧].
ثم قال عز وجل: وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً يعني:
متروكاً لا يؤمنون به، ولا يعملون بما فيه. وقال القتبي: يعني: جعلوه كالهذيان. ويقال: فلان يهجر في منامه، أي يهذي. وقال مجاهد: يهجرون منه بالقول، يعني: يقولون فيه بالقبيح، فبين الشكاية من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الرب عز وجل، ثم أن الله عزَّ وجلَّ عزاه وأخبره أن الرسل من قبله كانوا يتأذون بقومهم، فذلك قوله عز وجل: وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ يعني: من المشركين، فيهجرون الكتاب.
ثم قال: وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً يعني: هادِياً إلى دينه من كان أهلا لذلك.

(١) عزاه السيوطي: ٦/ ٢٥٠ إلى ابن مردويه وأبي نعيم في الدلائل. [.....]


الصفحة التالية
Icon