والمقتصد الذي يطلب عيب غيره، والظالم الذي هو مشغول في عيب غيره ولا يصلح عيب نفسه. وطريق خامس وعشرين ما روي عن أنس بن مالك- رضي الله عنه- عن النبيّ صلّى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا إلى قوله: الْفَضْلُ الْكَبِيرُ قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «هَؤُلاءِ كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ. أمَّا السَّابِقُ بِالخَيْرَاتِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَأَمَّا المُقْتَصِدُ فَإِنَّهُ يُحَاسَبُ حِسَابَاً يَسِيْرَاً ثُمَّ يَدْخُلُ الجَنَّةَ، وَأَمَّا الظَالِمُ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُحَاسَبُ حِسَابَاً شَدِيداً وَيُحْبَسُ حَبْسَاً طَوِيلاً ثُمَّ يَدْخُلُ الجَنَّةَ. فَإِذَا دَخَلُوا الجَنَّةَ قَالُوا: الحَمْدُ لِلَّهِ الذى أذهب عنا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ». وقد قيل غير هذا: إلا أنه يطول الكلام فيه. وفيما ذكرنا كفاية لمن عمل به. وأكثر الروايات أن الأصناف الثلاثة كلهم في الجنة مؤمنون، وأول الآية وآخرها دليل على ذلك. فأما أول الآية فقوله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا من عبادنا يعني: أعطينا الكتاب. فأخبر أنه أعطى الكتاب لهؤلاء الثلاثة.
وقال في آخر الآية جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها [النحل: ٣١ وغيرها] فأشار إلى الأصناف الثلاثة بالآية الأولى، حيث قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ، والأخرى حيث قال: يَدْخُلُونَها ولم يقل:
يدخلانها. وفي الآية الأخرى دليل أن الأصناف الثلاثة هم يدخلون الجنة. وقال بعضهم: تأول قول ابن عباس الذي قاله في رواية أبي صالح: أن الظالم كافر يعني: كفر النعمة. ومعناه:
فمنهم من كفر بهذه النعمة، ولم يشكر الله عز وجل عليها. ومنهم مقتصد يعني: يشكر ويكفر. ومنهم سابق يعني: يشكر ولا يكفر.
وروي عن كعب الأحبار أنه قيل له: ما منعك أن تسلم على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قال:
كان أبي مكنني جميع التوراة إلا ورقات منعني أن أنظر فيها. فخرج أبي يوماً لحاجة. فنظرت فيها فوجدت فيها نعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأمته، وأنه يجعلهم يوم القيامة ثلاثة أثلاث ثلث يدخلون الجنة بغير حساب. وثلث يحاسبون حساباً يسيراً، ويدخلون الجنة بغير حساب، وثلث تشفع لهم الملائكة والنبيون فأسلمت. وقلت: لعلّي أكون من الصنف الأول، وإن لم أكن من الصنف الأول لعلّي أن أكون من الصنف الثاني أو من الصنف الثالث. فلما قرأت القرآن وجدتها في القرآن وهو قوله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ إلى قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها الآية. فإن قيل: ايش الحكمة في ذكره الظالم ابتداءً وتأخيره ذكر السابق قيل له:
الحكمة فيه والله أعلم لكيلا يعجب السابق بنفسه، ولا ييأس الظالم من رحمة الله عز وجل. ثم قال تعالى: بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يعني: الذي أورثهم من الكتاب واختارهم هو الفضل الكبير من الله تعالى.
[سورة فاطر (٣٥) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٣٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (٣٤) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (٣٥)