فمكث الجنود حول المدينة بضعة عشرة ليلة، فأرسل عيينة بن حصن الفزاري، والحارث بن عوف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم إنك إن أعطيتنا تمر المدينة هذه السنة، نرجع عنك بغطفان وكنانة، ونخلي بينك وبين قومك فتقاتلهم. فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «لا». فقال: فنصف ذلك التمر. قال: «نعم». وكان عند النبيّ صلّى الله عليه وسلم سعد بن معاذ وهو سيد الأوس، وسعد بن عبادة وهو سيد الخزرج. فقال لرسول الله صلّى الله عليه وسلم عيينة، والحارث بن عوف لرسول الله صلّى الله عليه وسلم: اكتب لنا كتاباً. فدعى بصحيفة ليكتب بينهم. فقال سعد بن معاذ وسعد بن عبادة: يا رسول الله أوحي إليك في هذا شيء. فقال: «لا ولكنني رَأَيْتُ العَرَبَ رَمَتْكُمْ مِنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَقُلْتُ أَرُدُّ هؤلاء وَأُقَاتِلُ هؤلاء» فقالا: ما رجون بهذا منها في الجاهلية قط أن يأخذوا منا تمرة واحدة إلا بشراء وقرًى. فحين زادنا الله بك، وأمدنا بك، وأكرمنا بك، نعطيهم الدنية. لا نعطيهم شيئاً إلا بالسيف. فشق النبيّ صلّى الله عليه وسلم الصحيفة قال: «اذْهَبُوا فَلا نُعْطِيكُمْ شَيْئاً إلاَّ بِالسَّيْفِ».
فلما كان يوم الجمعة أرسل أبو سفيان إلى حييّ بن أخطب أن استعدَّ غداً إلى القتال فقد طال المقام هاهنا وقل لقومك يعدوا. فلما جاء بني قريظة الرسول، فقالوا: غداً يوم السبت لا نقاتل فيه. فقال أبو سفيان: نحن نؤخر القتال إلى يوم الأحد. هاتوا لنا رهوناً أبناءكم نثلج إليهم أي: نطمئن بذلك.
فجاء رسول أبي سفيان إلى بني قريظة، وقد أمسوا، فقالوا: هذه الليلة لا يدخل علينا أحد، ولا يخرج من عندنا أحد. فوقع في نفس أبي سفيان من قول نعيم بن مسعود أنه خوان حق، وأن نقض العهد كان مكراً منهم.
فلما كانت الليلة ورسول الله صلّى الله عليه وسلم وأصحابه عند الخندق فصلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ثلث الليل ثم قال: «من رجل ينظر ما يَفْعَلُ القَوْمُ أَدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ». فما تحرك منهم أحد. ثم صلى الثلث الثاني فقال: «من رجل ينظر ما يفعل القوم» فما تحرك منهم أحد ثم صلى ساعة، ثم هتف مرة أخرى، فما تحرك منهم إنسان. فقال: «يَا حُذَيْفَةُ» فجاء حذيفة. فقال: «أَمَا سَمِعْتَ كَلامِي مُنْذُ اللَّيْلَة». قال: بلى. ولكن بي من الجوع والقر- يعني: البرد- لم أقدر على أن أجيبك. قال:
«اذْهَبْ فَانْظُرْ ما فَعَلَ القَوْمُ، وَلاَ تَرْمِي بِسَهْمٍ، وَلاَ بِحَجَرٍ، وَلاَ تَطْعَنْ بِرمْحٍ، وَلاَ تَضْرِبْ بِسَيْفٍ». فقال: يا رسول الله إني لا أخشى أن يقتلوني، إني لميت. ولكن أخشى أن يمثلوا بي. فقال: «لَيْسَ عَلَيْكَ بَأْسٌ». فلما قال هذا، قال حذيفة: آمنت وعرفت أنه لا بأس علي.
فلما ولى حذيفة، قال النبيّ صلّى الله عليه وسلم: «احْفَظْهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ وَعَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ وَمِنْ فَوْقِهِ وَمِنْ تَحْتِهِ». فدخل حذيفة رضي الله عنه في عسكر قريش، فإذا هم يصطلون يعني:
مجتمعين على نار لهم. فجلس حذيفة في حلقة منهم. فقال: أتدرون ما يريد الناس غداً؟
قالوا: ماذا يريدون؟ قال: يقولون: يعني: أهل العساكر- أين قريش؟ أين سادات الناس