فتجهز فخرج معه حتى إذا كان في بعض طريقه، بعث رجلاً من بني سليم، ليدعو الناس في حج بيته الذي بناه، فتلقاه رجل من اليمن بني كنانة، فقتله.
فازداد أبرهة بذلك غضباً، وحث على المسير والانطلاق، حتى إذا كان بأرض جعم فخرج إليه رجل من أشراف اليمن وملوكهم، يقال له ذو يفن. فدعا القوم، وأحبابه من سائر العرب، إلى حرب أبرهة، وصده عن بيت الله، فقاتله فهرب ذو يفن وأصحابه، وأخذوا ذا يفن، وأتى به أسيراً. فلما أراد قتله قال: أيها الملك، لا تقتلني، فإنه عسى أن أكون معك خير لك من قتلي، فتركه وحبسه عنده في وثاقه. ثم مضى على وجهه ذلك، حتى إذا كان بأرض خشعم، عرض له فقيل ابن حبيب الخشعي، فقاتله فهزمه، وأخذ أسيراً. فلما أتي به، وهم بقتله فقال: أيها الملك لا تقتلني، فإني دليلك بأرض العرب، فتركه وخلى سبيله، وخرج به معه يدله على أرض العرب.
حتى إذا مر بالطائف فخرج إليه مسعود بن مغيث، التقى في رجال من ثقيف فقالوا: أيها الملك إنما نحن عبيدك، ليس عندنا لك خلاف، وليس بيتنا هذا الذي تريد، يعنون اللات والعزى، وليست بالتي يحج إليه العرب، وإنما ذلك بيت قريش الذي بمكة، فنحن نبعث معك من يدلك عليه، فتجاوز عنهم فبعثوا معه أبا رغال، فخرج يهديهم الطريق، حتى أنزلهم بالمغمس وهي على ستة أميال من مكة، فمات أبو رغال هناك، فرجمت العرب قبره، فهو القبر الذي ترجمه الناس بالمغمس.
ثم إن قريشاً لما علموا، أن لا طاقة لهم بالقتال مع هؤلاء القوم، لم يبق بمكة أحد، إلا خرج إلى الشعاب والجبال، ولم يبق أحد إلا عبد المطلب على سقايته وشيبه، أقام على حجابة البيت، فجعل عبد المطلب يأخذ بعضادتي البيت ويقول: لا هم إن المرء يمنع رحله، فامنع رحالك لا يغلبوا بصليبهم، فأمر ما بدا لك. ثم إن أبرهة بعث رجلاً من الحبشة على جمل له، حتى انتهى إلى مكة، وساق إلى أبرهة أموال قريش وغيرها. فأصاب مائتي بعير لعبد المطلب، وهو يومئذٍ كبير قريش وسيدها. ثم بعثت أبرهة رجلاً من أهل حمير إلى مكة، وقال أرسل إلى سيد هذا البيت وشريفهم. ثم قال له: إن الملك يقول لك، إني لم آت لأخرجكم، وإنما جئت لأهدم هذا البيت، فإن لم تتعرضوا إلى دونه بحرب، فلا حاجة لي بدمائكم.
فلما دخل الرسول مكة، جاء إلى عبد المطلب، وأدى إليه الرسالة، فقال له عبد المطلب: ما نريد حربه، وما لنا بنيه، حتى أتى العسكر فسأل عن ذي يفن، وكان صديقاً له، فجاءه وهو في مجلسه فقال له: هل عندك من عناء بما نزل بنا، فقال له ذو يفن: ما عناء رجل أسير بيد ملك ينتظر بأن يقتله، عدواً أو مشياً ألا إن صاحب الفيل صديق لي، فأرسل إليه فأوصيه لك، وأعظم عليه حقك، وأسأله أن يستأذن لك على الملك، فتكلمه أنت بما بدا لك.