يلونهم على أشدّ كوكب درّيّ في السماء إضاءة. لا يبولون ولا يتغوّطون ولا يمتخطون ولا يتفلون. أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك ومجامرهم الألوّة. وأزواجهم الحور العين. أخلاقهم على خلق رجل واحد، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعا في السّماء. وفي رواية ولكلّ واحد منهم زوجتان يرى مخّ ساقهما من وراء اللحم من الحسن. لا اختلاف بينهم ولا تباغض، قلوبهم واحدة يسبّحون الله بكرة وعشيا» «١».
وواضح من هذه الأمثلة أن الأحاديث النبوية في الجنة متساوقة مع الآيات القرآنية الكثيرة في وصف مشاهد الجنة بأحسن المشاهد الدنيوية. والإيمان بما يثبت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من ذلك وكونه في نطاق قدرة الله تعالى واجب مثل ما هو واجب بالنسبة للقرآن. مع الإيمان بأنه لا بدّ لذكر ذلك بالأسلوب الذي ذكر به من حكمة. ويلمح في الأحاديث كما يلمح في الآيات أن من تلك الحكمة التبشير والتطمين وإثارة الرغبة في التقرب إلى الله تعالى بصالح الأعمال.
ولقد حاول الأغيار أن يجدوا في جنات القرآن مغمزا بالدين الإسلامي، بزعم أن ذلك يثير الأنانية والطمع في المسلمين، ويجعلهم لا يفعلون الصالحات إلّا رغبة في الأجر الشخصي، ويخرج صفة الحياة الأخروية من نطاقها الروحاني التجريدي. أما إثارة الطمع والأنانية فالبداهة تقضي بأن تكون الحياة الأخروية وجناتها قاضية عليها. لأن الإنسان الذي يؤمن بأنه إذا آمن واتقى وعمل الصالحات واصل إلى أعلى ما تصبو إليه نفسه من لذة ونعيم في الحياة الأخرى يستطيع أن يوطن النفس على التضحيات المتنوعة في المال والنفس، وعلى القناعة والغيرية وأعمال البرّ، دون أن ينتظر جزاء ماديا معجلا في الحياة الدنيا. وأما النطاق الروحاني التجريدي فإن القرآن قد جرى فيما قرره في كل شأن مع طبائع الأمور وحقائقها.
والدين الإسلامي من أجل هذا صح أن يكون دين الخلود والإنسانية العام.
وما جاء في القرآن من صفات الجنات ونعيمها قد جرى في هذا النطاق. على أنه لم يقصر ما سوف يتمتع به المؤمن الصالح في الحياة الأخروية على الجنات بل

(١) المصدر السابق ص ٣٧١- ٣٧٥.


الصفحة التالية
Icon