أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦). وهذا يجعلنا نقول إن هذا الدور الذي قضاه منذ شبابه إلى اكتمال نضجه ونزول الوحي عليه كان دور استعداد وتأهل روحي، وهو الدور الذي يمكن أن يطلق عليه دور الحيرة والذي عنته الآية الكريمة: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى فيما يتبادر لنا مما يجعلنا نعتقد أن كلمة ضَالًّا لم تعن السير في سبيل الضلالة والشرك والتقاليد الجاهلية والوثنية التي كان عليها العرب، وأن كلمة فَهَدى لم تعن أن الله أخرجه من هذا النطاق بعد أن ارتكس فيه، وإنما عنت الأولى ما كان في نفسه من حيرة وتململ وتوقان إلى ساحل اليقين، كما عنت الأخرى ما كان من اليقين الذي وصل إليه فاطمأنت به نفسه.
وفي سورة الأنعام آيات يمكن الاستئناس بها لما قررناه بوجه عام ولما أشرنا إليه في صدد ملة إبراهيم والرغبة في الاهتداء إليها واتباعها بوجه خاص وهي: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٦١) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٢) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣) وقوة التلقين والدلالة في هذه الآيات قوية أخّاذة.
هذا ولقد روى بعض المفسرين «١» في سياق آية وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (٧) أنها إشارة إلى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قد تاه في طفولته في جبال مكة فقلق عليه جده وبحث عنه طويلا حتى وجده ولم يصب بسوء. ونحن نشك في الرواية كل الشك، لأنّ الحادث الذي ذكرته أتفه من أن يكون موضوع ذكر وتذكير، فضلا عن عدم وثوقها وعن التوجيه الصحيح الذي قررناه والذي تسنده آيات القرآن.
على أن هؤلاء المفسرين وجمهرة المفسرين الآخرين يؤولون الضلال بنحو ما أولناه أو في نطاقه. انظر كتب التفسير الثلاثة المذكورة وانظر أيضا تفسير الطبري والنيسابوري والبغوي وابن كثير والآلوسي إلخ.