والموضوع في ذاته من ناحية أخرى من المعضلات والمواضيع التي كانت وما تزال قدرا مشتركا بين مختلف النحل والملل والأدوار والأفكار حيث ينقسم الناس فيه بين الاعتقاد بالجبر أو الاختيار بالنسبة لأعمال الناس ومكتسباتهم وبين المسبّبات الحادثة والتقدير المحتوم بالنسبة لأحداث الكون المتنوعة.
والإيمان بالله وشمول علمه وقدرته وإحاطته وحكمته ومشيئته وأبديته وأزليته يقتضي بدون ريب الإيمان بأنه لا يصحّ أن يقع شيء في الدنيا من أحداث الكون وأعمال الخلق إلّا بإرادة الله وتقديره. وفي القرآن آيات كثيرة تؤيد ذلك كما أن هذا من مقتضى الأحاديث العديدة التي أوردناها والتي كثير منها بأسناد قوية صحيحة.
ومع ذلك ففي القرآن أيضا شواهد لا تحصى على أن الله عزّ وجلّ أودع في الكون نواميس تجري أحداثه وفقها وأودع في الناس قابليات العمل والكسب والتمييز والاختيار فيعملون أعمالهم السلبية والإيجابية بها. وأمرهم باستعمال هذه القابليات ونسب أعمالهم إليهم. ورتّب ثوابهم وعقابهم على اختيارهم وكسبهم.
وربط بين ذلك كله وبين حكمة إرسال الرسل. وبيان معالم الهدى والحق من الضلال والباطل في شؤون الدين والدنيا وحثّهم على اتباع الحق والهدى وفعل الخير وحذّرهم من اتباع الباطل والآثام وآذنهم أن ذلك في إمكانهم ومن قابلياتهم التي أودعها الله فيهم بل وربط بين ذلك والحياة الأخروية ربطا وثيقا كما أن فيه آيات كثيرة جدا تنسب أعمال الناس على اختلافها إليهم وإلى مشيئتهم أيضا. وفي القرآن والأحاديث ضوابط يزول بها ما يمكن أن يبدو من تناقض بين ذلك ويكشف عن الحكمة المتوخاة مما مرّ وسيأتي أمثلة كثيرة منها بل ويكاد يكون في كل الآيات وسياقها التي تذكر هداية الله وإضلاله للناس وتقدير ذلك عليهم ما يمكن أن يزيل كون ذلك تقديرا جزافا حتميا وبدون سبب وعمل منهم مما مرّ وسيأتي أمثلة كثيرة منه.
ويبدو أن مذهب الاختيار والمسببات أكثر إلزاما لأن المتسق بخاصة مع الحقيقة الكبرى في حكمة إرسال الرسل ودعوة الناس إلى الله وإلى الأعمال


الصفحة التالية
Icon