ومما يتبادر أن ما ورد عن الجن والشياطين وإبليس من صور قرآنية بغيضة ومن حملات على الكفار في سياقها متصل بما في أذهان العرب عنهم، وبسبيل تقرير كون الانحراف عن الحق والمكابرة فيه والاستغراق في الإثم والخبائث والانصراف عن دعوة الله هو من تلقيناتهم ووساوسهم، ومظهرا من مظاهر الانحراف نحوهم، وبسبيل التحذير من الاندماغ بهم لما في ذلك من مهانة ومسبة.
ومن هنا يأتي الكلام قويا ملزما ولاذعا، ويقوم البرهان على أن ذلك من الوسائل التدعيمية لأهداف القرآن وأسس الدعوة الإسلامية.
وهذا ملموح أيضا على ما هو المتبادر من آيات سورتي الجن والأحقاف التي تخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم باستماع الجن للقرآن، فآيات سورة الجن تفيد أن الذين استمعوا القرآن منهم ممن كانوا يعتقدون أن الله ولدا وصاحبة كما ترى فيها: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (١) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (٢) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (٣) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (٤) وآيات سورة الأحقاف تفيد أن الذين استمعوا هم من المتدينين بالديانة الموسوية على ما تفيده الآيات [٢٩- ٣٠] التي أوردناها قبل قليل، والصورة الأولى متصلة من ناحية بعقائد العرب المشركين ومن ناحية بعقيدة النصارى حيث يلمح أن هذا وذاك ينطويان من جهة ما على قصد التدعيم للرسالة المحمدية بالإخبار بأن بعض طوائف الجن الذين يدينون بالديانة الموسوية والديانة العيسوية وبعقائد العرب والذين لهم في أذهان العرب تلك الصورة الهائلة قد آمنوا بهذه الرسالة حينما سمعوا النبي صلّى الله عليه وسلّم يتلو القرآن «١».
ولقد تزيد المفسرون المطولون في صدد ماهية الجن وأوردوا أقوالا متنوعة عنهم بسبيل ذلك «٢» معظمها مغرب وغير موثق. ولما كان القرآن إنما ذكر الجن في معرض التنديد والتحذير والموعظة والتدعيم والتمثيل، ثم لما كان الجن كائنات

(١) انظر كتابنا القرآن المجيد، ص ١٨٥، ١٨٩. [.....]
(٢) انظر نماذج من ذلك في كتابنا المذكور أيضا ص ٢٤٢ وما بعدها.


الصفحة التالية
Icon