لأن المسلمين كانوا قلة مستضعفة من جهة ولأن ما أهاج التهاجي هو الاحتكاك المسلح بين الفريقين الذي كان بعد الهجرة من جهة ثانية. ولذلك فالرواية تصح في اعتقادنا بالنسبة للآية الأخيرة فقط. أما الآيات الثلاث فالمتبادر أنها نزلت في صدد الردّ على نسبة الشاعرية إلى النبي صلى الله عليه وسلّم ونزول الشياطين عليه بالقرآن على ما كانت عليه عقيدة العرب وأنها متصلة بالآيات السابقة التي لا خلاف في مكيتها.
ولما اضطلع شعراء المسلمين بعد الهجرة بالردّ على شعراء الكفار اقتضت حكمة التنزيل استثناءهم من الوصف الذي وصف به الشعراء فنزلت الآية وألحقت بالآيات الثلاث للاستدراك والمناسبة الظاهرة، شأنها في هذا شأن الآية الأخيرة في سورة المزمل. ولقد ذكر المفسرون في سياق تفسير الآيات أن الآية المذكورة نزلت في حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك رضى الله عنهم الذين أمرهم النبي بهجو المشركين ردّا على هجو هؤلاء النبي والمؤمنين فذكروا له ما وصفت آيات الشعراء به الشعراء فأنزل الله الآية فتلاها عليهم وهو يقول لهم هؤلاء أنتم هؤلاء أنتم، فأخذوا منذئذ يردون على هجو الكفار.
والرواية محتملة الصحة جدا وإن لم ترد في كتب الأحاديث الصحيحة.
وفيها تأييد لما قلناه من أن الآيات الثلاث نزلت في مكة والآية الرابعة فقط هي التي نزلت في المدينة. ولقد روى المفسرون أن النبي كان يقول لحسان «اهجهم وجبريل معك. وإنّه لأشدّ عليهم من رشق النّبل» ولكعب بن مالك «إنّ المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه. والذي نفسي بيده لكأنّ ما ترمونهم به نضح النّبل».
وواضح أن في الآية وما روي في سياقها تلقينا مستمر المدى في حقّ المسلم وواجبه في الدفاع عن الإسلام والمسلمين بمختلف أساليب الدفاع. وإن ما يمكن أن يكون في أصله مذموما يغدو في هذا السبيل ممدوحا مرغوبا فيه بل واحيا.
ومع ذلك ففي الاستثناء الذي تضمنته الآية تلقين جليل آخر وهو أن هذه الرخصة التي يرخصها الله ورسوله للمسلمين إنما هي للذين يكون موقفهم موقف المنتصر من الظلم الذي لا يتجاوز الحق.