والآيتان الأوليان قد توهمان أنهما تقرران بأن الله عز وجل يحجب الكفار الذين لا يؤمنون بالآخرة وحسابها عن النبي ﷺ ويغلق قلوبهم وآذانهم دون فهم القرآن حينما كان يتلوه عليهم، غير أن التمعن فيهما وفي الآيتين التاليتين لهما يزيل ذلك التوهم ويبين أنهما في الحقيقة في صدد وصف شدة عنادهم وغلظ قلوبهم وتصاممهم ونفورهم. فهم في حالة كحالة المضروب بينه وبين الحق حجاب فلا يراه، والمغطّى على قلبه فلا يتأثر به والأصمّ فلا يسمعه، وفي سورة لقمان آية يمكن أن تكون قرينة على صحة هذا التأويل وهي وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٧) ووصف الكفار بوصف الذين لا يؤمنون بالآخرة في الآية الأولى وبوصف الظالمين في الآية الثالثة وحكاية قولهم بأن النبي ﷺ مسحور والتنديد بهم في الآية الرابعة مؤيد كذلك لهذا التأويل المتطابق مع تأويل المفسرين على اختلاف في الصيغة والأسلوب «١»، ومثل هذا ورد بأساليب متنوعة في سور سابقة مثل سورتي يس والأعراف.
والمتبادر أن في العبارة في الوقت نفسه تطمينا وتسلية للنبي صلى الله عليه وسلم: فلا ينبغي أن يحزن وييأس من موقف الكفار وأقوالهم، فهم من غلظ القلب وعمى البصيرة وخبث الطويّة ما يجعلهم محجوبين عن التأثر بالقرآن وفهمه، وليس هو المسئول عن ذلك ولا المكلّف بالتغلب عليه وإنما هو نذير وبشير.
على أن من الممكن أن يقال هنا ما قلناه في مناسبات سابقة مماثلة وهو أن هذه الآيات بسبيل تسجيل واقع أمر الكفار حين نزولها، لأن كثيرين من الذين عنتهم قد أسلموا بعد الهجرة وبخاصة بعد الفتح المكي.
والآية الثانية تؤيد ما قلناه في مناسبة الآيات السابقة وغيرها بأن الكفار لم يكونوا جاحدين الله تعالى وإنما كانوا يشركون معه شركاء فينفرون حينما يذكر وحده بدون شركائهم أو شفعائهم.

(١) انظر تفسير الطبري وابن كثير والزمخشري والطبرسي.


الصفحة التالية
Icon