وأنهما فصل مستقل، غير أن عودة السياق بعدهما إلى التنديد بالكفار وإنذارهم تسوغ القول أنهما جاءتا استطراديتين لبيان ما كان من أثر مواقف الكفار وكيدهم والتنويه بالذين ثبتوا على دين الله الحق وتحملوا الشدائد ثم هاجروا تمسكا به، وهما والحالة هذه غير بعيدتين ولا غريبتين عن جوّ السياق.
وقد روى المفسرون أن الآيتين نزلتا في بعض المسلمين الذين منعهم قومهم عن الهجرة إلى المدينة وسجنوهم وأرادوا فتنتهم فصبروا وثبتوا ثم تمكنوا من الهجرة فهاجروا «١» كما رووا أنهما نزلتا في الذين هاجروا إلى الحبشة حينما اشتد أذى المشركين على الذين آمنوا من قومهم «٢». وهذه الرواية هي الأصح لأن الرواية الأولى تقتضي أن تكون الآيتان مدنيتين مع أنه لا خلاف في مكيتهما. ولقد احتوت الآية العاشرة من سورة الزمر التي نزلت قبل هذه السورة بأمد غير بعيد حضا للمسلمين على تقوى الله ووعدا بالخير والعاقبة الحسنة في الدنيا للذين أحسنوا، وتنبيها إلى أن أرض الله واسعة وأن الله موف للصابرين أجرهم بغير حساب، وإعلانا بأن الله قد أمر نبيه بعبادة الله وحده والإخلاص له مما انطوى فيه إلهاما أو إذنا للمضطهدين من المسلمين بالهجرة وتلقينا بوجوب التمسك بدينهم فجاءت الآيتان تخبران أن فريقا من هؤلاء قد اتبعوا إلهام الله أو إذنه فخرجوا مهاجرين في سبيل دينه وتعدانهم بالخير والفلاح والأجر الكبير في الدنيا والآخرة.
وروايات السيرة النبوية تذكر «٣» أنه لما ظهر الإسلام وكثر الذين آمنوا من قريش- وخاصة من شبابهم- ثار كبار ذويهم من المشركين عليهم وأخذوا يؤذونهم ويضطهدونهم ويحاولون ردهم عن الإسلام فأشار عليهم النبي بالهجرة إلى بلاد الحبشة وقال لهم: «إنّ فيها ملكا لا تظلمون عنده». وقد هاجر في دفعة أحد عشر رجلا وأربع نساء معظمهم من شباب قريش ومن أبناء زعماء المشركين المناوئين للدعوة أو أقاربهم. وقد بلغهم أن المشركين آمنوا فعادوا وظهر لهم عدم صحة ما
(٢) انظر الكتابين المذكورين وتفسير ابن كثير والخازن والطبرسي.
(٣) انظر الجزء الأول من كل من كتاب الطبقات لابن سعد وسيرة ابن هشام.