وثانيا: إن القرآن ذكر في سورة مريم أن روح الله تمثل لمريم بشرا ليهب لها غلاما ولم يذكر أسلوب الهبة. وروح الله في سورة مريم يعني على ما تلهمه العبارة بكل قوة بل وصراحة ملك الله وبين هذا وبين فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وفَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [التحريم: ١٢] فرق واضح.
وثالثا: إن القرآن لم يذكر في سورة آل عمران في سياق ذكر قصة ولادة عيسى نفخا ولا روحا مرسلا وإنما بشرى من الملائكة بكلمة الله كما ترى في هذه الآيات: إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧).
ورابعا: إن روح الآيات التي وردت فيها هذه التعبيرات تلهم قصد تقرير كون خلقة عيسى عناية ربانية ومعجزة ربانية ونفي أي جزئية إلهية عنه وقصد تقرير كون عيسى عبدا من عباد الله ورسوله ولا يصح أن يكون ولدا له أو مندمجا معه في الألوهية أو صورة من صورها وتنزيه الله عن هذه المعاني وتقرير وحدانيته وكمال صفاته كما جاء ذلك في آيات سورة النساء هذه: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا (١٧١) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [١٧٢].
فالواجب والحالة هذه الوقوف عند الحدّ الذي وقف عنده القرآن دون تزيد مع ملاحظة ما تلهمه روح الآيات ومع اعتبار أن التنوع الذي يبدو في التعبيرات هو بقصد التقريب والتمثيل وملاحظة أن ما قصد تقريره متصل بالدعوة النبوية إلى الله