ولقد تحقق الوعد الرباني فتمّت الزيارة في العام القابل حسب الاتفاق.
وأدّى المسلمون مناسكها آمنين مطمئنين فكان ذلك معجزة من معجزات القرآن.
ومما روي عن ذلك «١» أن النبي ﷺ خرج في ذي القعدة من السنة السابعة على رأس ألفين من أصحابه كان معظمهم ممن شهدوا صلح الحديبية. وقدموا أمامهم الهدي ولم يكن معهم إلا سيوفهم في أغمادها. ولما أقبلوا على مكة خرج أهلها إلى رؤوس الجبال عدا رجال منهم اصطفوا عند دار الندوة لمشاهدة مشهد دخول النبي وأصحابه الذين دخلوا مهلّلين مكبّرين وقد هتف النبي بأصحابه (رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة) ثم أقبل النبي وأصحابه نحو الكعبة فطافوا بها وارتقى بلال فوقها فأذن للصلاة. وارتجز عبد الله بن رواحة بين يدي رسول الله:

خلّوا بني الكفار عن سبيله خلوا فكل الخير مع رسوله
نحن ضربناكم على تأويله كما ضربناكم على تنزيله
ضربا يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله
يا رب إني مؤمن بقيله «٢»
(١) انظر كتب تفسير: الطبري وابن كثير والبغوي والخازن وسيرة ابن هشام ج ٣ ص ٤٢٥- ٤٢٧ وابن سعد ج ٣ ص ١٦٧- ١٦٩.
(٢) روى هذا الشعر وهتاف النبي ﷺ ابن هشام ج ٣ ص ٤٢٤ و ٤٢٥، وابن سعد ج ٣ ص ١٦٧- ١٦٩. وهناك روايات أخرى للشعر رواها ابن كثير فيها زيادات. ولقد قال ابن هشام إن البيت الثالث وما بعده ليس لعبد الله بن رواحة وإنما هو لعمار بن ياسر قاله في غير هذا اليوم. واستدلّ على صحة ذلك قائلا إن الذي يقاتل على التأويل يكون قد اعترف بالتنزيل ولم يكن مشركو قريش اعترفوا بذلك. والتعليل وجيه. على أننا نشك في الشعر كله وفي هتاف النبي صلى الله عليه وسلم. فليس شيء من ذلك واردا في الصحاح. والنبي والمسلمون وصلوا مكة في هذا الظرف بناء على اتفاق الحديبية الذي كان اتفاق صلح أو هدنة. والشعر والهتاف أحرى أن يكونا في ظرف انتصار حربي. ومن المعقول والمحتمل أن يكون ذلك حينما دخل النبي والمسلمون مكة عنوة فاتحين في السنة الثامنة للهجرة على ما سوف يرد شرحه بعد في سياق سورة الحديد. بل لقد روى أن النبي ﷺ قال في خطبته بعد أن تم فتح مكة (لا إله إلّا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده)، وهي الفقرة التي يروى أن النبي أمر عبد الله بن رواحة أن يقولها بدلا من شعره...


الصفحة التالية
Icon