بترك من لا يقاتلهم ومن يكفّ عنهم لسانه ويده، ومن هو غير أهل للقتال من شيوخ ونساء وصبيان ورهبان «١». ولقد قال بعض المفسرين وعزا بعضهم إلى بعض أهل التأويل من التابعين أن الآية الأولى منسوخة بخاصة بالنسبة لمشركي العرب بآية سورة التوبة هذه: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥). ونحن لا نعتقد ذلك وسياق هذه الآية السابق واللاحق لها لا يدعمه على ما سوف نشرحه في مناسبته. ولقد أورد الطبري هذا القول أيضا ثم فنده بقوله: «وأولى الأقوال بالصواب قول من قال عني بذلك لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرّوهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم. وقد عمّ الله عزّ وجل جميع من كان ذلك صفته فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال إن ذلك منسوخ. لأن برّ المؤمن لأهل الحرب «٢» ممن بينه وبينه قرابة أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه أصلا إذا لم يكن في ذلك دلالة لهم على عورة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح» وفي هذا كل الحق والصواب إن شاء الله.
والله أعلم.
ولقد تحقق ما توقعته الآية الأولى وأمّلت المسلمين به فدخل معظم قريش ثم معظم العرب في دين الله في حياة النبي ﷺ وانقلب ما كان من عداء بينهم وبين المسلمين إلى مودّة وإخاء فكان ذلك من معجزات القرآن الباهرة.
ولقد ترد ملاحظة على الفرق في التعبير في الآيات. ففي الآية الثانية استعمل

(١) انظر ابن سعد ج ٣ ص ١٣٢ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٥٨٧.
(٢) أهل الحرب اصطلاح فقهي كان مطلقا في العصور الإسلامية الأولى على أهل البلاد التي أهلها كفار. ولم يكن الإطلاق سليما إلا في حالة أن يكون بينهم وبين المسلمين حالة حرب وعداء. ويتبادر لنا أنه أطلق لأن البلاد التي كانت مجاورة لبلاد المسلمين كانت في حالة حرب مع المسلمين إما في حالة حرب قائمة أو في حالة حرب متوقفة بهدنة. وكلام الطبري هو في صدد من يكونون غير محاربين للمسلمين ولا متآمرين عليهم من أهل هذه البلاد.


الصفحة التالية
Icon