ومما يجعل القول الثاني أكثر ورودا ووجاهة أن ألفاظ القرآن (مفرداتها وتركيباتها) ليست أمرا قاصرا على القرآن. وإنما هي مما يستعمله الناطقون باللغة العربية للتعبير عن أفكارهم نطقا وكتابة. وكان ذلك قبل نزول القرآن واستمرّ بعده وإلى ما شاء الله. وهي ألفاظ بشرية للتعبير عن أمور وأفكار بشرية حادثة. والله ليس كمثله شيء. فله سمع وبصر ولكن ذلك غير مماثل لأي شيء كما جاء في آية سورة الشورى التي أوردناها والتي هي ضابط قرآني هام في مثل هذه المسائل.
ومن ذلك فهو متكلم ولكن كلامه غير مماثل لأي شيء.
وهناك أمر آخر مهم يقوي ذلك أيضا وهو أن الله عزّ وجلّ لم يكلم النبي ﷺ بالقرآن مباشرة. ففي سورة الشعراء هذه الآيات نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥). وفي سورة النحل هذه الآيات وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (١٠٢). وفي سورة البقرة هذه الآية قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧). أي إن الذي كلم النبي مباشرة وقرأ عليه القرآن ونزّله على قلبه هو جبريل الذي وصف في آيتي النحل والشعراء بالروح الأمين والروح القدس.
وجبريل مخلوق مثل سائر خلق الله، ينقل إلى النبي ﷺ ما يتلقاه من الله. أما كيف كان جبريل يتلقى القرآن من الله تعالى فقد يصحّ أن يترك تأويله لله عزّ وجلّ تبعا لمسألة الملائكة على ما شرحناه في سياق سورة المدثر. ويصح أن يقال أيضا والله أعلم أن الله يخلق معنى ما يريد وحيه قرآنا إلى نبيّه في جبريل فينزل به على قلب النبي بألفاظه العربية.
ويظهر أن المفسرين الذين لم يفتهم هذا المعنى فطنوا إلى ما يمكن أن يورد عليه بما جاء في سورة القيامة فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨)
فقال ابن عباس في تأويل