أَيْ لَا يَزَالُونَ مُسْتَذَلِّينَ، مَنْ وَجَدَهُمُ اسْتَذَلَّهُمْ وَأَهَانَهُمْ وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الصَّغَارَ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ في أنفسهم أذلاء متمسكون. قال الضحاك، عن ابن عباس: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ النيالات يعني الْجِزْيَةِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ قَالَ: يُعْطُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ، وقال الضحاك: وضربت عليه الذِّلَّةُ، قَالَ: الذُّلُّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَذَلَّهُمُ اللَّهُ فلا منعة لهم، وجعلهم تَحْتَ أَقْدَامِ الْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ أَدْرَكَتْهُمْ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَإِنَّ الْمَجُوسَ لَتَجْبِيهِمُ الْجِزْيَةَ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالسُّدِّيُّ: الْمَسْكَنَةُ الْفَاقَةُ، وَقَالَ عَطِيَّةُ الْعَوْفِيُّ: الْخَرَاجُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ:
الْجِزْيَةُ، وَقَوْلُهُ تعالى: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ قَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتَحَقُّوا الْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: فَحَدَثَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ يَقُولُ: اسْتَوْجَبُوا سُخْطًا، وَقَالَ ابن جرير: يعني بقوله: وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ انْصَرَفُوا وَرَجَعُوا، وَلَا يُقَالُ: باء إِلَّا مَوْصُولًا إِمَّا بِخَيْرٍ وَإِمَّا بِشَرٍّ يُقَالُ مِنْهُ: بَاءَ فُلَانٌ بِذَنْبِهِ يَبُوءُ بِهِ بَوْءًا وَبَوَاءً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ [الْمَائِدَةِ: ٢٩] يَعْنِي تَنْصَرِفُ مُتَحَمِّلَهُمَا وَتَرْجِعُ بِهِمَا قَدْ صَارَا عَلَيْكَ دُونِي. فَمَعْنَى الكلام: إذا رجعوا مُنْصَرِفِينَ مُتَحَمِّلِينَ غَضَبَ اللَّهِ قَدْ صَارَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ غَضَبٌ، وَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ سُخْطٌ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ، وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَقُولُ تَعَالَى: هَذَا الَّذِي جَازَيْنَاهُمْ مِنَ الذِّلَّةِ وَالْمَسْكَنَةِ، وإحلال الغضب بهم من الذلة، بِسَبَبِ اسْتِكْبَارِهِمْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ، وَإِهَانَتِهِمْ حَمَلَةَ الشَّرْعِ، وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ وَأَتْبَاعُهُمْ، فَانْتَقَصُوهُمْ إِلَى أَنْ أَفْضَى بِهِمُ الْحَالُ إِلَى أن قتلوهم، فلا كفر أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ، وَقَتَلُوا أَنْبِيَاءَ اللَّهِ بِغَيْرِ الْحَقِّ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ» «١» وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كُنْتُ لَا أَحْجُبُ عَنِ النَّجْوَى، وَلَا عَنْ كَذَا وَلَا عَنْ كذا، فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ مَالِكُ بْنُ مُرَارَةَ الرَّهَاوِيُّ، فَأَدْرَكْتُهُ مِنْ آخِرِ حَدِيثِهِ وَهُوَ يَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ قُسِمَ لِي مِنَ الْجَمَالِ مَا تَرَى، فَمَا أُحِبُّ أَنَّ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ فَضَلَنِي بِشِرَاكَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا، أَفَلَيَسَ ذَلِكَ هُوَ الْبَغْيُ؟ فَقَالَ: «لَا لَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الْبَغْيِ وَلَكِنَّ الْبَغْيَ مَنْ بَطَرَ»، أَوْ قَالَ: «سَفِهَ الْحَقَّ وَغَمِطَ النَّاسَ» «٢» يَعْنِي رَدَّ الْحَقِّ، وَانْتِقَاصَ النَّاسِ، وَالِازْدِرَاءَ بِهِمْ، وَالتَّعَاظُمَ عَلَيْهِمْ، وَلِهَذَا لَمَّا ارْتَكَبَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مَا ارْتَكَبُوهُ مِنَ الْكُفْرِ بِآيَاتِ الله، وقتلهم أنبياءه، أَحَلَّ اللَّهُ بِهِمْ بَأْسَهُ الَّذِي لَا يُرَدُّ،
(٢) مسند أحمد (ج ١ ص ٣٨٥).