أُمُّكَ الَّتِي وَلَدَتْكَ، كَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْكَ أُمُّكَ التي أرضعتك، ولهذا ثبت فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قَالَ «إِنَّ الرَّضَاعَةَ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ» «١»، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعَةِ مَا يحرم من النسب».
وقال بعض الفقهاء: كل ما يحرم بالنسب يحرم بالرضاعة إِلَّا فِي أَرْبَعِ صُوَرٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سِتِّ صُوَرٍ هِيَ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ لَا يُسْتَثْنَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ يوجد مثل بعضها من النَّسَبِ، وَبَعْضُهَا إِنَّمَا يَحْرُمُ مِنْ جِهَةِ الصِّهْرِ فَلَا يَرِدُ عَلَى الْحَدِيثِ شَيْءٌ أَصْلًا الْبَتَّةَ، ولله الحمد وبه الثقة.
ثُمَّ اخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي عَدَدِ الرَّضَعَاتِ الْمُحَرِّمَةِ، فَذَهَبَ ذَاهِبُونَ إِلَى أَنَّهُ يُحَرِّمُ مُجَرَّدُ الرَّضَاعِ لعموم هذه الآية، وهذا قول مالك، ويروى عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَالزُّهْرِيُّ. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُحَرِّمُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثِ رَضَعَاتٍ، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم، قال:
«لا تحرم المصة ولا المصتان» «٢» وَقَالَ قَتَادَةُ، عَنْ أَبِي الْخَلِيلِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا تُحَرِّمُ الرَّضْعَةُ وَلَا الرَّضْعَتَانِ، وَالْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ»، وَفِي لَفْظٍ آخَرَ «لَا تُحَرِّمُ الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْقَوْلِ: الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بن راهويه، وأبو عبيد وأبو ثور، وهو مروي عَنْ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَأُمِّ الْفَضْلِ وَابْنِ الزُّبَيْرِ وَسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يُحَرِّمُ أَقَلُّ مِنْ خَمْسِ رَضَعَاتٍ، لِمَا ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ فيما أنزل مِنَ الْقُرْآنِ «عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ» ثُمَّ نسخن بخمس معلومات، فتوفي النبي صلّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُنَّ فِيمَا يُقْرَأُ مِنَ الْقُرْآنِ «٣»، وَرَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، نَحْوَ ذَلِكَ.
وَفِي حَدِيثِ سَهْلَةَ بِنْتِ سُهَيْلٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تُرْضِعَ سالما مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ خَمْسَ رَضَعَاتٍ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَأْمُرُ مَنْ يُرِيدُ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَنْ يرضع خمس رضعات، وبهذا قال الشافعي وَأَصْحَابُهُ.
ثُمَّ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الرَّضَاعَةُ فِي سِنِّ الصِّغَرِ دُونَ الْحَوْلَيْنِ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ. وَكَمَا قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ عِنْدَ قَوْلِهِ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ
(٢) صحيح مسلم (رضاع حديث ١٧ و ٢٠ و ٢٣).
(٣) صحيح مسلم (رضاع حديث ٢٥).