الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [النِّسَاءِ: ١٥٦- ١٥٩] وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ عَائِدٌ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَيْ وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا ليؤمنن بِعِيسَى قُبَلَ مَوْتِ عِيسَى، وَذَلِكَ حِينَ يَنْزِلُ إِلَى الْأَرْضِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ، فَحِينَئِذٍ يُؤْمِنُ بِهِ أَهْلُ الْكِتَابِ كُلُّهُمْ، لِأَنَّهُ يَضَعُ الْجِزْيَةَ وَلَا يَقْبَلُ إِلَّا الْإِسْلَامَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ في قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ يَعْنِي وَفَاةَ الْمَنَامِ، رَفَعَهُ اللَّهُ فِي مَنَامِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْيَهُودِ «إِنَّ عِيسَى لَمْ يَمُتْ، وَإِنَّهُ رَاجِعٌ إِلَيْكُمْ قَبْلَ يَوْمِ الْقَيَّامَةِ» وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَيْ بِرَفْعِي إِيَّاكَ إِلَى السَّمَاءِ وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهَكَذَا وَقَعَ فَإِنَّ الْمَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَى السَّمَاءِ، تَفَرَّقَتْ أَصْحَابُهُ شِيَعًا بَعْدَهُ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِمَا بَعَثَهُ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَابْنُ أُمَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ غَلَا فِيهِ فَجَعَلَهُ ابْنَ اللَّهِ، وَآخَرُونَ قَالُوا: هُوَ اللَّهُ، وَآخَرُونَ قَالُوا: هُوَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. وَقَدْ حَكَى اللَّهُ مَقَالَاتِهِمْ فِي الْقُرْآنِ وَرَدَّ عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ، فَاسْتَمَرُّوا على ذلك قريبا من ثلاثمائة سنة، ثم نبغ لَهُمْ مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ الْيُونَانِ يُقَالُ لَهُ قُسْطَنْطِينُ «١»، فَدَخَلَ فِي دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ، قِيلَ: حِيلَةٌ لِيُفْسِدَهُ، فَإِنَّهُ كَانَ فَيْلَسُوفًا، وَقِيلَ: جَهْلَا مِنْهُ إِلَّا أَنَّهُ بَدَّلَ لَهُمْ دِينَ الْمَسِيحِ وَحَرَّفَهُ، وَزَادَ فِيهِ وَنَقَصَ مِنْهُ، وَوُضِعَتْ لَهُ الْقَوَانِينُ، والأمانة الكبرى الَّتِي هِيَ الْخِيَانَةُ الْحَقِيرَةُ، وَأُحِلَّ فِي زَمَانِهِ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ، وَصَلَّوْا لَهُ إِلَى الْمَشْرِقِ، وَصَوَّرُوا له الكنائس والمعابد والصوامع، وزاد فِي صِيَامِهِمْ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَجْلِ ذَنْبٍ ارْتَكَبَهُ فِيمَا يَزْعُمُونَ، وَصَارَ دِينُ الْمَسِيحِ دِينَ قُسْطَنْطِينَ إِلَّا أَنَّهُ بَنَى لَهُمْ مِنَ الْكَنَائِسِ وَالْمَعَابِدِ وَالصَّوَامِعِ وَالدِّيَارَاتِ مَا يَزِيدُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ مَعْبَدٍ، وَبَنَى الْمَدِينَةَ الْمَنْسُوبَةَ «٢» إِلَيْهِ، وَاتَّبَعَهُ الطَّائِفَةُ الْمَلْكِيَّةُ مِنْهُمْ، وَهُمْ فِي هَذَا كُلُّهُ قَاهِرُونَ لِلْيَهُودِ، أَيَّدَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَقْرَبُ إِلَى الْحَقِّ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ كُفَّارًا عَلَيْهِمْ لَعَائِنُ اللَّهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ مَنْ آمَنَ بِهِ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْحَقِّ، كَانُوا هُمْ أَتْبَاعَ كُلِّ نَبِيٍّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، إِذْ قَدْ صَدَّقُوا الرسول النبي الأمي العربي، خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق، الَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى التَّصْدِيقِ بِجَمِيعِ الْحَقِّ، فَكَانُوا أَوْلَى بِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ أُمَّتِهِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى مِلَّتِهِ وَطَرِيقَتِهِ، مَعَ مَا قَدْ حَرَّفُوا وَبَدَّلُوا، ثُمَّ لَوْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ من ذلك، لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بَعَثَ اللَّهُ بِهِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي لَا يُغَيَّرُ ولا يبدل إلى قيام الساعة،
(٢) سنة ٣٣٠ م أعاد بناء بيزنطة وجعلها عاصمة ملكه وسماها القسطنطينية وكرسها للعذراء.