مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ أَيْ مَا يَنْبَغِي لبشر آتاه الله الكتاب والحكمة وَالنُّبُوَّةَ، أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ اعْبُدُونِي مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَيْ مَعَ اللَّهِ، فَإِذَا كَانَ هَذَا لَا يَصْلُحُ لِنَبِيٍّ وَلَا لِمُرْسَلٍ، فَلِأَنْ لَا يَصْلُحَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرَهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا يَنْبَغِي هَذَا لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ، قَالَ:
وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانَ يَعْبُدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، يعني أهل الكتاب كانوا يعبدون أحبارهم وَرُهْبَانِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة: ٣١] الآية، وَفِي الْمُسْنَدِ وَالتِّرْمِذِيِّ كَمَا سَيَأْتِي أَنَّ عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عَبَدُوهُمْ. قَالَ «بَلَى إِنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ وَحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلَالَ، فَاتَّبَعُوهُمْ فَذَلِكَ عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ».
فَالْجَهَلَةُ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَمَشَايِخِ الضَّلَالِ يَدْخُلُونَ فِي هَذَا الذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ بِخِلَافِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ من العلماء العاملين فإنهم إنما يأمرون بما يأمر الله به، وبلغتهم إياه رسله الكرام، وإنما يَنْهَوْنَهُمْ عَمَّا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ وَبَلَّغَتْهُمْ إِيَّاهُ رُسُلُهُ الْكِرَامُ، فَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ، هُمُ السُّفَرَاءُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي أَدَاءِ مَا حَمَلُوهُ مِنَ الرِّسَالَةِ وَإِبْلَاغِ الأمانة، فقاموا بذلك أتم القيام، وَنَصَحُوا الْخَلْقَ، وَبَلَّغُوهُمُ الْحَقَّ.
وَقَوْلُهُ: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ أَيْ وَلَكِنْ يَقُولُ الرَّسُولُ لِلنَّاسِ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو رَزِينٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَيْ حُكَمَاءَ عُلَمَاءَ حُلَمَاءَ، وَقَالَ الْحَسَنُ وغير واحد: فقهاء كذا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةَ وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: يَعْنِي أَهْلَ عِبَادَةٍ وَأَهْلَ تَقْوَى، وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ: حَقٌّ عَلَى مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا تُعَلِّمُونَ أَيْ تُفَهِّمُونَ مَعْنَاهُ، وَقُرِئَ تُعَلِّمُونَ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّعْلِيمِ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ تَحْفَظُونَ أَلْفَاظَهُ.
ثم قال الله تعالى: وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيْ وَلَا يَأْمُرُكُمْ بِعِبَادَةِ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ: لَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَلَا مَلَكٍ مُقَرَّبٍ أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أَيْ لَا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله، ومن دَعَا إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ دَعَا إِلَى الْكَفْرِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِنَّمَا يَأْمُرُونَ بِالْإِيمَانِ وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٥] وَقَالَ تَعَالَى:
وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل: ٣٦] الآية، وقال وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزُّخْرُفِ: ٤٥] وَقَالَ إِخْبَارًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٢٩].