الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَالَّذِي أَحَلَّ لَهُ، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم «يحل لك الطيبات، ويحرم عَلَيْكَ الْخَبَائِثُ، إِلَّا أَنْ تَفْتَقِرَ إِلَى طَعَامٍ لَكَ، فَتَأْكُلَ مِنْهُ حَتَّى تَسْتَغْنِيَ عَنْهُ». فَقَالَ الرَّجُلُ: وَمَا فَقْرِي الَّذِي يُحِلُّ لِي وَمَا غنائي الَّذِي يُغْنِينِي عَنْ ذَلِكَ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وسلم «إذا كنت ترجو غناء تَطْلُبُهُ فَتَبْلُغُ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَطْعِمْ أَهْلَكَ مَا بَدَا لَكَ حَتَّى تَسْتَغْنِيَ عَنْهُ» فَقَالَ الأعرابي: ما غنائي الذي أدعه إذا وجدته، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «إِذَا أَرُوِيَتْ أَهْلُكَ غَبُوقًا مِنَ اللَّيْلِ، فَاجْتَنِبْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ عليك من طعام مالك، فإنه ميسور كله فليس فِيهِ حَرَامٌ».
وَمَعْنَى قَوْلِهِ «مَا لَمْ تَصْطَبِحُوا» يَعْنِي بِهِ الْغَدَاءَ «وَمَا لَمْ تَغْتَبِقُوا» يَعْنِي به العشاء «أو تحتفئوا بقلا فشأنكم بها» فَكُلُوا مِنْهَا. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» : يُرْوَى هَذَا الحرف، يعني قوله «أو تحتفئوا» على أربعة أوجه: تحتفئوا بِالْهَمْزَةِ، وَتَحْتَفِيُوا: بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَالْحَاءِ، وَتَحْتَفُوا بِتَشْدِيدِ الْفَاءِ، وَتَحْتَفُوا بِالْحَاءِ وَبِالتَّخْفِيفِ، وَيُحْتَمَلُ الْهَمْزُ، كَذَا رواه فِي التَّفْسِيرِ.
حَدِيثٌ آخَرُ- قَالَ أَبُو دَاوُدَ «٢» : حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بن دكين، حدثنا وَهْبِ بْنِ عُقْبَةَ الْعَامِرِيُّ، سَمِعْتُ أَبِي يُحَدِّثُ عن النجيع الْعَامِرِيِّ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
مَا يَحِلُّ لَنَا مِنَ الميتة؟ قال «ما طعامكم» ؟ قلنا: نصطبح ونغتبق. قَالَ أَبُو نُعَيْمٍ: فَسَّرَهُ لِي عُقْبَةُ، قَدَحُ غُدْوَةٍ وَقَدَحُ عَشِيَّةٍ، قَالَ: ذَاكَ وَأَبِي الْجُوعُ، وَأُحِلَّ لَهُمُ الْمَيْتَةُ عَلَى هَذِهِ الْحَالِ.
تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ. وَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يَصْطَبِحُونَ وَيَغْتَبِقُونَ شَيْئًا لَا يَكْفِيهِمْ، فَأَحلَّ لَهُمُ الْمَيْتَةَ لِتَمَامِ كِفَايَتِهِمْ وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يَرَى جَوَازَ الْأَكْلِ مِنْهَا حَتَّى يَبْلُغَ حَدَّ الشِّبَعِ، وَلَا يَتَقَيَّدُ ذَلِكَ بِسَدِّ الرَّمَقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
حَدِيثٌ آخَرُ- قَالَ أَبُو دَاوُدَ «٣» : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، حَدَّثَنَا سِمَاكٌ عَنْ جَابِرِ عن سَمُرَةَ: أَنْ رَجُلًا نَزَلَ الْحَرَّةَ وَمَعَهُ أَهْلُهُ وولده، فقال له رجل: إن ناقتي ضَلَّتْ، فَإِنْ وَجَدْتَهَا فَأَمْسِكْهَا، فَوَجَدَهَا وَلَمْ يَجِدْ صاحبها، فمرضت، فقالت له امْرَأَتُهُ: انْحَرْهَا فَأَبَى، فَنَفَقَتْ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: اسلخها حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله، قال: لا حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ «هَلْ عِنْدَكَ غِنًى يُغْنِيكَ؟» قَالَ: لَا، قَالَ «فَكُلُوهَا» قَالَ: فَجَاءَ صَاحِبُهَا فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: هَلَّا كُنْتَ نَحَرْتَهَا؟ قَالَ اسْتَحْيَيْتُ مِنْكَ، تَفَرَّدَ بِهِ، وَقَدْ يَحْتَجُّ بِهِ مَنْ يُجَوِّزُ الْأَكْلَ وَالشِّبَعَ وَالتَّزَوُّدُ مِنْهَا مُدَّةً يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ الِاحْتِيَاجُ إِلَيْهَا وَاللَّهُ أعلم.
وقوله: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي مُتَعَاطٍ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَبَاحَ ذَلِكَ لَهُ وَسَكَتَ عَنِ الْآخَرِ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
(٢) سنن أبي داود (أطعمة باب ٣٦).
(٣) المصدر السابق.