وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أَيْ فِي إِبْدَاءِ الْأَعْذَارِ وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ يَقُولُ تَعَالَى هَلَّا تَرَكْتَهُمْ لَمَّا اسْتَأْذَنُوكَ فَلَمْ تَأْذَنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ فِي الْقُعُودِ لِتَعْلَمَ الصَّادِقَ مِنْهُمْ فِي إِظْهَارِ طَاعَتِكَ مِنَ الْكَاذِبِ فَإِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا مُصِرِّينَ عَلَى الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ وَإِنْ لَمْ تَأْذَنْ لَهُمْ فِيهِ.
وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَسْتَأْذِنُهُ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَقَالَ: لَا يَسْتَأْذِنُكَ أَيْ فِي الْقُعُودِ عَنِ الْغَزْوِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ لأنهم يَرَوْنَ الْجِهَادَ قُرْبَةً وَلَمَّا نَدَبَهُمْ إِلَيْهِ بَادَرُوا وَامْتَثَلُوا وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ أَيْ فِي الْقُعُودِ مِمَّنْ لَا عُذْرَ لَهُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَيْ لَا يَرْجُونَ ثَوَابَ اللَّهِ فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ أَيْ شَكَّتْ فِي صِحَّةِ مَا جِئْتَهُمْ بِهِ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ أَيْ يَتَحَيَّرُونَ يُقَدِّمُونَ رِجْلًا وَيُؤَخِّرُونَ أُخْرَى وَلَيْسَتْ لَهُمْ قَدَمٌ ثَابِتَةٌ فِي شَيْءٍ فَهُمْ قَوْمٌ حَيَارَى هَلْكَى لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يضلل الله فلن تجد له سبيلا.
[سورة التوبة (٩) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (٤٦) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٤٧)
يَقُولُ تَعَالَى: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ أَيْ مَعَكَ إِلَى الْغَزْوِ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً أَيْ لَكَانُوا تَأَهَّبُوا لَهُ وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ أَيْ أَبْغَضَ أَنْ يَخْرُجُوا معكم قَدَرًا فَثَبَّطَهُمْ أَيْ أَخَّرَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ أي قدرا ثم بين تَعَالَى وَجْهَ كَرَاهِيَتِهِ لِخُرُوجِهِمْ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا أَيْ لِأَنَّهُمْ جُبَنَاءُ مَخْذُولُونَ وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ أَيْ وَلَأَسْرَعُوا السَّيْرَ وَالْمَشْيَ بَيْنَكُمْ بِالنَّمِيمَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالْفِتْنَةِ.
وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أَيْ مُطِيعُونَ لَهُمْ وَمُسْتَحْسِنُونَ لِحَدِيثِهِمْ وَكَلَامِهِمْ يَسْتَنْصِحُونَهُمْ وَإِنْ كَانُوا لا يعلمون حالهم فيؤدي إِلَى وُقُوعِ شَرٍّ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَفَسَادٍ كَبِيرٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ وَابْنُ جَرِيرٍ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ أَيْ عُيُونٌ يَسْمَعُونَ لَهُمُ الْأَخْبَارَ وَيَنْقُلُونَهَا إِلَيْهِمْ، وَهَذَا لَا يَبْقَى لَهُ اخْتِصَاصٌ بِخُرُوجِهِمْ مَعَهُمْ بَلْ هَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ أَظْهَرُ فِي الْمُنَاسَبَةِ بِالسِّيَاقِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وقال محمد بن إسحاق: كان الذين استأذنوا فيما بلغني مِنْ ذَوِي الشَّرَفِ مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيِّ ابْنِ سَلُولَ وَالْجَدُّ بْنُ قَيْسٍ وَكَانُوا أَشْرَافًا فِي قَوْمِهِمْ فَثَبَّطَهُمُ اللَّهُ لِعِلْمِهِ بِهِمْ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فَيُفْسِدُوا عَلَيْهِ جُنْدَهُ وَكَانَ فِي جُنْدِهِ قَوْمٌ أَهْلُ مَحَبَّةٍ لَهُمْ وَطَاعَةٍ فِيمَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ لِشَرَفِهِمْ فِيهِمْ فَقَالَ: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ «١».

(١) انظر تفسير الطبري ٦/ ٣٨٤.


الصفحة التالية
Icon