يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ أَيْ يَكْرَهُ أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَيْ إِنْ أَبْقَاهَا أَبْقَاهَا مُهَانَةً لَا يُورِّثُهَا وَلَا يَعْتَنِي بِهَا، وَيُفَضِّلُ أَوْلَادَهُ الذُّكُورَ عَلَيْهَا أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَيْ يَئِدُهَا وَهُوَ أَنْ يَدْفِنَهَا فِيهِ حَيَّةً كَمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، أَفَمَنْ يَكْرَهُونَهُ هَذِهِ الْكَرَاهَةَ وَيَأْنَفُونَ لِأَنْفُسِهِمْ عَنْهُ يَجْعَلُونَهُ لِلَّهِ؟ أَلا ساءَ مَا يَحْكُمُونَ أَيْ بِئْسَ مَا قَالُوا، وَبِئْسَ مَا قَسَمُوا، وبئس ما نسبوه إليه، كقوله تَعَالَى: وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ. وقوله هَاهُنَا: لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ أَيِ النَّقْصُ إِنَّمَا يُنْسَبُ إِلَيْهِمْ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى أَيِ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وهو منسوب إليه وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ.
[سورة النحل (١٦) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٦١) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (٦٢)
يُخْبِرُ تَعَالَى عَنْ حِلْمِهِ بِخَلْقِهِ مَعَ ظُلْمِهِمْ وَأَنَّهُ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ أَيْ لَأَهْلَكَ جَمِيعَ دَوَابِّ الْأَرْضِ تَبِعًا لِإِهْلَاكِ بَنِي آدَمَ، وَلَكِنَّ الرَّبَّ جَلَّ جَلَالُهُ يَحْلُمُ وَيَسْتُرُ، وَيُنْظِرُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى أَيْ لَا يُعَاجِلُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، إِذْ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ لَمَا أَبْقَى أَحَدًا. قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ أَنَّهُ قَالَ: كَادَ الْجُعَلُ «١» أَنْ يُعَذَّبَ بذنب بني آدم، وقرأ الآية وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ «٢» وَكَذَا رَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: كَادَ الْجُعَلُ أَنْ يَهْلِكَ فِي جُحْرِهِ بِخَطِيئَةِ بَنِي آدَمَ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «٣» : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ حَكِيمٍ الْخُزَاعِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَابِرٍ الْحَنَفِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: سَمِعَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَجُلًا وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّ الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ، قَالَ: فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: بَلَى وَاللَّهِ حَتَّى إن الحبارى لتموت في وكرها بِظُلْمِ الظَّالِمِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَنْبَأَنَا الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الملك، حدثنا عبيد الله بن شرحبيل، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ مَسْلَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَمِّهِ أَبِي مَشْجَعَةَ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَكَرْنَا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُؤَخِّرُ شَيْئًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهُ، وَإِنَّمَا زِيَادَةُ الْعُمُرِ بِالذُّرِّيَّةِ الصَّالِحَةِ يَرْزُقُهَا اللَّهُ الْعَبْدَ فَيَدْعُونَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ فَيَلْحَقُهُ دُعَاؤُهُمْ فِي قَبْرِهِ فَذَلِكَ زِيَادَةُ العمر».
(٢) انظر تفسير الطبري ٧/ ٦٠١.
(٣) تفسير الطبري ٧/ ٦٠١.