وَلَا يَعْرِفُ وَاحِدٌ مِنْهُمُ الْآخَرَ، وَإِنَّمَا جَمَعَهُمْ هُنَاكَ الَّذِي جَمَعَ قُلُوبَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ.
كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مِنْ حَدِيثِ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ» «١» وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ من حديث سهيل عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالنَّاسُ يَقُولُونَ: الْجِنْسِيَّةُ عِلَّةُ الضَّمِّ، وَالْغَرَضُ أَنَّهُ جَعَلَ كُلَّ أَحَدٍ مِنْهُمْ يكتم ما هو عليه عَنْ أَصْحَابِهِ خَوْفًا مِنْهُمْ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُمْ مِثْلُهُ حَتَّى قَالَ أَحَدُهُمْ: تَعْلَمُونَ وَاللَّهِ يَا قَوْمِ إِنَّهُ مَا أَخْرَجَكُمْ مِنْ قَوْمِكُمْ وَأَفْرَدَكُمْ عَنْهُمْ إِلَّا شَيْءٌ، فَلْيُظْهِرْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ بِأَمْرِهِ، فَقَالَ آخَرُ: أَمَّا أَنَا فَإِنِّي وَاللَّهِ رَأَيْتُ مَا قَوْمِي عَلَيْهِ فَعَرَفْتُ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْتَحِقُّ أَنْ يُعْبَدَ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكَ بِهِ شَيْءٌ هُوَ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا، وَقَالَ الْآخَرُ: وَأَنَا وَاللَّهِ وَقَعَ لِي كَذَلِكَ، وَقَالَ الْآخَرُ كَذَلِكَ، حَتَّى تَوَافَقُوا كُلُّهُمْ عَلَى كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، فَصَارُوا يَدًا وَاحِدَةً، وَإِخْوَانَ صِدْقٍ، فَاتَّخَذُوا لَهُمْ مَعْبَدًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فِيهِ، فَعَرَفَ بِهِمْ قَوْمُهُمْ فَوَشَوْا بِأَمْرِهِمْ إِلَى مَلِكِهِمْ فَاسْتَحْضَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَسَأَلَهُمْ عَنْ أَمْرِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، فَأَجَابُوهُ بِالْحَقِّ وَدَعَوْهُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا أَخْبَرَ تَعَالَى عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ: وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً ولن لِنَفْيِ التَّأْبِيدِ أَيْ لَا يَقَعُ مِنَّا هَذَا أَبَدًا، لِأَنَّا لَوْ فَعَلْنَا ذَلِكَ لَكَانَ بَاطِلًا، وَلِهَذَا قَالَ عَنْهُمْ: لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً أَيْ بَاطِلًا وَكَذِبًا وَبُهْتَانًا.
هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ أَيْ هَلَّا أَقَامُوا عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ دَلِيلًا وَاضِحًا صَحِيحًا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يَقُولُونَ: بَلْ هُمْ ظَالِمُونَ كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ ذَلِكَ، فَيُقَالُ إِنَّ مَلِكَهُمْ لَمَّا دَعَوْهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ أَبَى عَلَيْهِمْ وَتَهَدَّدَهُمْ وَتَوَعَّدَهُمْ، وَأَمَرَ بِنَزْعِ لِبَاسِهِمْ عَنْهُمُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ زِينَةِ قَوْمِهِمْ، وأجلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دِينَهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ، وَكَانَ هَذَا مِنْ لُطْفِ اللَّهِ بِهِمْ، فَإِنَّهُمْ فِي تِلْكَ النَّظْرَةِ تَوَصَّلُوا إِلَى الْهَرَبِ مِنْهُ وَالْفِرَارِ بِدِينِهِمْ مِنَ الْفِتْنَةِ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْرُوعُ عِنْدَ وُقُوعِ الْفِتَنِ فِي النَّاسِ أَنْ يَفِرَّ الْعَبْدُ مِنْهُمْ خَوْفًا عَلَى دِينِهِ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ أَحَدِكُمْ غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الْجِبَالِ وَمَوَاقِعَ الْقَطْرَ يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الْفِتَنِ» «٢» فَفِي هَذِهِ الْحَالِ تُشْرَعُ الْعُزْلَةُ عَنِ النَّاسِ وَلَا تُشْرَعُ فِيمَا عَدَاهَا، لِمَا يَفُوتُ بِهَا مِنْ تَرْكِ الْجَمَاعَاتِ وَالْجُمَعِ، فَلَمَّا وَقَعَ عَزْمُهُمْ عَلَى الذَّهَابِ وَالْهَرَبِ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَاخْتَارَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ أي وإذ فَارَقْتُمُوهُمْ وَخَالَفْتُمُوهُمْ بِأَدْيَانِكُمْ فِي عِبَادَتِهِمْ غَيْرَ اللَّهِ، فَفَارِقُوهُمْ أَيْضًا بِأَبْدَانِكُمْ، فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ
(٢) أخرجه أبو داود في الفتن باب ٤، وأحمد في المسند ٣/ ٣٠.