رسوله صلّى الله عليه وسلم قَامَ بِهِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ قُرَيْشٍ: مَا أُنْزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى مُحَمَّدٍ إِلَّا لِيَشْقَى، فأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى فَلَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ الْمُبْطِلُونَ، بَلْ مَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْعِلْمَ فَقَدْ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا كَثِيرًا، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهُهُ فِي الدِّينِ» «١».
وَمَا أَحْسَنَ الْحَدِيثَ الَّذِي رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ سَالِمٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ الطَّالَقَانِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يقول اللَّهُ تَعَالَى لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا قَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ لِقَضَاءِ عِبَادِهِ: إِنِّي لَمْ أَجْعَلْ عِلْمِي وَحِكْمَتِي فِيكُمْ إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَغْفِرَ لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ وَلَا أُبَالِي» إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَثَعْلَبَةُ بْنُ الْحَكَمِ هَذَا هُوَ اللَّيْثِيُّ، ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ فِي اسْتِيعَابِهِ، وَقَالَ: نَزَلَ الْبَصْرَةَ ثُمَّ تَحَوَّلَ إِلَى الْكُوفَةِ، وَرَوَى عَنْهُ سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي قَوْلِهِ: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى هي كقوله: فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ [الْمُزَّمِّلِ: ٢٠] وَكَانُوا يُعَلِّقُونَ الْحِبَالَ بِصُدُورِهِمْ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى لَا وَاللَّهِ مَا جَعَلَهُ شَقَاءً، وَلَكِنْ جَعَلَهُ رَحْمَةً وَنُورًا وَدَلِيلًا إِلَى الْجَنَّةِ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ كِتَابَهُ وَبَعَثَ رسوله رحمة رحم بها عباده لِيَتَذَكَّرَ ذَاكِرٌ، وَيَنْتَفِعَ رَجُلٌ بِمَا سَمِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَهُوَ ذِكْرٌ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ.
وَقَوْلُهُ: تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ هُوَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّكَ، رَبِّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكِهِ الْقَادِرِ عَلَى مَا يَشَاءُ، الَّذِي خَلَقَ الأرض بانخفاضها وكثافتها، وخلق السموات العلى فِي ارْتِفَاعِهَا وَلَطَافَتِهَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ سُمْكَ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَبُعْدَ مَا بَيْنَهَا وَالَّتِي تَلِيهَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ «٢»، وَقَدْ أَوْرَدَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ هَاهُنَا حَدِيثَ الْأَوْعَالِ مِنْ رِوَايَةِ الْعَبَّاسُ عَمِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَوْلُهُ: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ بما أغنى عن إعادته أَيْضًا، وَأَنَّ الْمَسْلَكَ الْأَسْلَمَ فِي ذَلِكَ طَرِيقَةُ السَّلَفِ إِمْرَارُ مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَشْبِيهٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَلَا تَمْثِيلٍ.
وَقَوْلُهُ: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى أَيِ الْجَمِيعُ ملكه، وفي قبضته، وتحت تصرفه وَمَشِيئَتِهِ وَإِرَادَتِهِ وَحُكْمِهِ، وَهُوَ خَالِقٌ ذَلِكَ وَمَالِكُهُ وإلهه لا إله سواه

(١) أخرجه البخاري في العلم باب ١٠، والخمس باب ٧، والاعتصام باب ١٠، ومسلم في الإمارة حديث ١٧٥، والزكاة حديث ٩٨، ١٠٠.
(٢) أخرجه الترمذي في تفسير سورة ٥٧، باب ١.


الصفحة التالية
Icon