الْجِنْسِ، أَيِ اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ الْأَوْثَانُ، وَقَرَنَ الشِّرْكَ بِاللَّهِ بِقَوْلِ الزُّورِ، كَقَوْلِهِ: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْأَعْرَافِ: ٣٣] وَمِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم قال: «أَلَا أُنْبِئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟» قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: «الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ- وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ فَقَالَ- أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ.
أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ»
. فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ «١».
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٢» : حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الْفَزَارِيُّ، أَنْبَأَنَا سُفْيَانُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ فَاتِكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنْ أَيْمَنَ بْنِ خُرَيْمٍ قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا، فَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ إِشْرَاكًا بِاللَّهِ» ثَلَاثًا، ثُمَّ قَرَأَ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ «٣» عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: غَرِيبٌ إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ زِيَادٍ، وَقَدِ اخْتَلَفَ عَنْهُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ وَلَا نَعْرِفُ لِأَيْمَنَ بْنِ خُرَيْمٍ سَمَاعًا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ «٤» أَيْضًا: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الْعُصْفُرِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ النُّعْمَانِ الْأَسَدِيِّ عَنْ خُرَيْمِ بْنِ فَاتَكٍ الْأَسَدِيِّ قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّبْحَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ قَامَ قَائِمًا فَقَالَ: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ» ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ أَبِي النَّجُودِ عَنْ وَائِلِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قال: تعدل شهادة الزور الإشراك بِاللَّهِ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَقَوْلُهُ: حُنَفاءَ لِلَّهِ أَيْ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ مُنْحَرِفِينَ عَنِ الْبَاطِلِ قَصْدًا إِلَى الْحَقِّ، وَلِهَذَا قَالَ: غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ثُمَّ ضَرَبَ لِلْمُشْرِكِ مَثَلًا فِي ضَلَالِهِ وَهَلَاكِهِ وَبُعْدِهِ عَنِ الْهُدَى، فَقَالَ:
وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ أَيْ سَقَطَ مِنْهَا فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَيْ تَقْطَعُهُ الطُّيُورُ فِي الْهَوَاءِ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ أَيْ بَعِيدٍ مُهْلِكٍ لِمَنْ هَوَى فِيهِ، وَلِهَذَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ: إِنَّ الْكَافِرَ إِذَا تَوَفَّتْهُ مَلَائِكَةُ الْمَوْتِ وَصَعِدُوا بِرُوحِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَلَا تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّمَاءِ بَلْ تُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا مِنْ هُنَاكَ، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْحَدِيثُ فِي سُورَةِ إِبْرَاهِيمَ بِحُرُوفِهِ وَأَلْفَاظِهِ وَطُرُقِهِ. وَقَدْ ضَرَبَ تعالى للمشركين مَثَلًا آخَرَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَهُوَ قَوْلُهُ: قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي

(١) أخرجه البخاري في الاستتابة باب ١، ومسلم في الإيمان حديث ١٤٣، ١٤٤.
(٢) المسند ٤/ ١٧٨، ٢٣٣.
(٣) كتاب الشهادات باب ٣.
(٤) المسند ٤/ ٣٢١.


الصفحة التالية
Icon