حِينَ مَناصٍ
[ص: ٣].
وقوله لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ أَيْ لَا يجيركم أحد مِمَّا حَلَّ بِكُمْ سَوَاءٌ جَأَرْتُمْ أَوْ سَكَتُّمْ لَا مَحِيدَ وَلَا مَنَاصَ وَلَا وَزَرَ لَزِمَ الْأَمْرُ وَوَجَبَ الْعَذَابُ، ثُمَّ ذَكَرَ أَكْبَرَ ذُنُوبِهِمْ فَقَالَ:
قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ أَيْ إِذَا دُعِيتُمْ أَبَيْتُمْ وَإِنْ طُلِبْتُمُ امْتَنَعْتُمْ ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غَافِرٍ: ١٢].
وَقَوْلُهُ: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ فِي تَفْسِيرِهِ قَوْلَانِ. [أَحَدُهُمَا] أَنَّ مُسْتَكْبِرِينَ حَالٌ مِنْهُمْ حِينَ نُكُوصِهِمْ عَنِ الْحَقِّ وَإِبَائِهِمْ إِيَّاهُ اسْتِكْبَارًا عَلَيْهِ، وَاحْتِقَارًا لَهُ وَلِأَهْلِهِ، فَعَلَى هَذَا الضَّمِيرُ فِي بِهِ فِيهِ ثلاثة أقوال [أحدهما] أنه الحرم أي مكة، ذموا لأنهم كانوا يسمرون فيه بالهجر من الكلام. [والثاني] أنه ضمير للقرآن كَانُوا يَسْمُرُونَ وَيَذْكُرُونَ الْقُرْآنَ بِالْهَجْرِ مِنَ الْكَلَامِ: إِنَّهُ سِحْرٌ، إِنَّهُ شِعْرٌ، إِنَّهُ كَهَانَةٌ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ الْبَاطِلَةِ. [وَالثَّالِثُ] أَنَّهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَذْكُرُونَهُ فِي سَمَرِهِمْ بِالْأَقْوَالِ الْفَاسِدَةِ، وَيَضْرِبُونَ لَهُ الْأَمْثَالَ الْبَاطِلَةَ، مِنْ أَنَّهُ شَاعِرٌ أَوْ كَاهِنٌ أَوْ ساحر أو كذاب أو مجنون، فكل ذَلِكَ بَاطِلٌ، بَلْ هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ الَّذِي أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَأَخْرَجَهُمْ مِنَ الْحَرَمِ صَاغِرِينَ أَذِلَّاءَ.
وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلُهُ: مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ أَيْ بِالْبَيْتِ يَفْتَخِرُونَ بِهِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُمْ أَوْلِيَاؤُهُ وليسوا به، كما قال النسائي من التفسير في سننه: أخبرنا أحمد بن سليمان، أخبرنا عبد اللَّهِ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ عَبْدِ الْأَعْلَى أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا كُرِهَ السَّمَرُ حِينَ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ فَقَالَ: مُسْتَكْبِرِينَ بِالْبَيْتِ، يَقُولُونَ: نَحْنُ أَهْلُهُ سَامِرًا قال: كانوا يَتَكَبَّرُونَ وَيَسْمُرُونَ فِيهِ وَلَا يُعَمِّرُونَهُ وَيَهْجُرُونَهُ، وَقَدْ أطنب ابن أبي حاتم هاهنا بما هذا حاصله.
[سورة المؤمنون (٢٣) : الآيات ٦٨ الى ٧٥]
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (٦٩) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (٧٠) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (٧١) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٧٢)
وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (٧٤) وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٥)
يَقُولُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي عَدَمِ تَفَهُّمِهِمْ لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ وَتَدَبُّرِهِمْ لَهُ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُمْ قَدْ خُصُّوا بِهَذَا الْكِتَابِ الَّذِي لَمْ يُنَزِّلِ اللَّهُ عَلَى رَسُولٍ أَكْمَلَ مِنْهُ وَلَا أشرف لا سيما آباؤهم الَّذِينَ مَاتُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْهُمْ كِتَابٌ وَلَا أَتَاهُمْ نَذِيرٌ، فَكَانَ اللَّائِقُ بِهَؤُلَاءِ أن