أَقَامَ بِبِلَادِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَحَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا. وَكَانَ مِنْ أَمْرِ السَّدِّ أَنَّهُ كَانَ الْمَاءُ يَأْتِيهِمْ مِنْ بَيْنِ جَبَلَيْنِ، وَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَيْضًا سُيُولُ أَمَطَارِهِمْ وَأَوْدِيَتِهِمْ، فَعَمَدَ مُلُوكُهُمُ الْأَقَادِمُ فَبَنَوْا بَيْنَهُمَا سَدًا عَظِيمًا مُحْكَمًا، حَتَّى ارْتَفَعَ الْمَاءُ وَحُكَمَ عَلَى حَافَاتِ ذَيْنَكِ الْجَبَلَيْنِ، فَغَرَسُوا الْأَشْجَارَ وَاسْتَغَلُّوا الثِّمَارَ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَثْرَةِ وَالْحُسْنِ، كَمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ مِنْهُمْ قَتَادَةُ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَمْشِي تَحْتَ الْأَشْجَارِ، وَعَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ أَوْ زِنْبِيلٌ وَهُوَ الَّذِي تُخْتَرَفُ فِيهِ الثِّمَارُ، فَيَتَسَاقَطُ مِنَ الْأَشْجَارِ فِي ذَلِكَ مَا يَمْلَؤُهُ مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَحْتَاجَ إِلَى كُلْفَةٍ وَلَا قِطَافٍ لِكَثْرَتِهِ وَنُضْجِهِ وَاسْتِوَائِهِ، وَكَانَ هَذَا السَّدُّ بِمَأْرَبَ. بَلْدَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ ثَلَاثُ مَرَاحِلَ، وَيُعْرَفُ بِسَدِّ مَأْرَبَ.
وَذَكَرَ آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الذُّبَابِ وَلَا الْبَعُوضِ وَلَا الْبَرَاغِيثِ، وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِّ، وَذَلِكَ لِاعْتِدَالِ الْهَوَاءِ وَصِحَّةِ الْمِزَاجِ وَعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ لِيُوَحِّدُوهُ ويعبدوه، كما قال تبارك وتعالى: لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ ثُمَّ فسرها بقوله عز وجل: جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ أَيْ مِنْ نَاحِيَتَيِ الْجَبَلَيْنِ وَالْبَلْدَةُ بَيْنَ ذَلِكَ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ أَيْ غَفُورٌ لَكُمْ إِنِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ.
وقوله تعالى: فَأَعْرَضُوا أَيْ عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَدَلُوا إِلَى عبادة الشمس من دون الله، كما قال الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ [النَّمْلِ: ٢٢- ٢٤] وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ: بعث الله تعالى إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَرْسَلَ الله عز وجل إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ نَبِيٍّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وقوله تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ الْمُرَادُ بِالْعَرِمِ الْمِيَاهُ، وَقِيلَ الْوَادِي، وَقِيلَ الْجُرَذُ، وَقِيلَ الْمَاءُ الْغَزِيرُ، فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الاسم إلى صفته مثل مسجد الجامع وسعيد كُرْزٍ، حَكَى ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ. وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ:
أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا أَرَادَ عُقُوبَتَهُمْ بِإِرْسَالِ الْعَرِمِ عَلَيْهِمْ، بَعَثَ عَلَى السَّدِّ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ يُقَالُ لَهَا الْجُرَذُ نَقَبَتْهُ. قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ سَبَبَ خَرَابِ هَذَا السَّدِّ هُوَ الْجُرَذُ فَكَانُوا يَرْصُدُونَ عِنْدَهُ السَّنَانِيرَ بُرْهَةً من الزمن فَلَمَّا جَاءَ الْقَدَرُ غَلَبَتِ الْفَأْرُ السَّنَانِيرَ، وَوَلَجَتْ إِلَى السَّدِّ فَنَقَبَتْهُ فَانْهَارَ عَلَيْهِمْ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الْجُرَذُ هُوَ الْخَلْدُ، نَقَبَتْ أَسَافِلَهُ حَتَّى إِذَا ضَعُفَ وَوَهَى، وَجَاءَتْ أَيَّامُ السُّيُولِ صَدَمَ الْمَاءُ الْبِنَاءَ فَسَقَطَ، فَانْسَابَ الْمَاءُ فِي أَسْفَلِ الْوَادِي وَخَرُبَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَضَبَ الْمَاءُ عَنِ الْأَشْجَارِ الَّتِي فِي الْجَبَلَيْنِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، فَيَبِسَتْ وَتَحَطَّمَتْ وَتَبَدَّلَتْ تِلْكَ الْأَشْجَارُ الْمُثْمِرَةُ الْأَنِيقَةُ النَّضِرَةُ، كما قال الله تبارك وتعالى: