أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ» فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: وَلِمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لِأَنَّكُنَّ تُكْثِرْنَ الشِّكَايَةَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ ثُمَّ تَرَكْتَ يَوْمًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ» «١» وَهَذَا حَالُ أكثر الناس، إلا من هداه الله تعالى وَأَلْهَمَهُ رُشْدَهُ، وَكَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصالحات، فالمؤمن كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا للمؤمن» «٢».
[سورة الشورى (٤٢) : الآيات ٤٩ الى ٥٠]
لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠)
يُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّهُ خَالِقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَالِكُهُمَا وَالْمُتَصَرِّفُ فِيهِمَا، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَأَنَّهُ يعطي من يشأ وَيَمْنَعُ مَنْ يَشَاءُ، وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، وَأَنَّهُ يَخْلُقُ مَا يشاء يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً أَيْ يَرْزُقُهُ الْبَنَاتِ فقط. قال البغوي: ومنهم لوط عليه الصلاة والسلام. وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَيْ يَرْزُقُهُ الْبَنِينَ فقط، قال البغوي:
كإبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام لَمْ يُولَدْ لَهُ أُنْثَى أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً أي ويعطي لمن يَشَاءُ مِنَ النَّاسِ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَيْ مِنْ هَذَا وَهَذَا، قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً أَيْ لَا يُولَدُ لَهُ.
قَالَ الْبَغَوِيُّ: كَيَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَجَعَلَ النَّاسَ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: مِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنَاتِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ الْبَنِينَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعْطِيهِ مِنَ النَّوْعَيْنِ ذُكُورًا وَإِنَاثًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ هَذَا وَهَذَا فَيَجَعَلُهُ عَقِيمًا لَا نَسْلَ لَهُ وَلَا يُولَدُ لَهُ. إِنَّهُ عَلِيمٌ أَيْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ كُلَّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَدِيرٌ أَيْ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ تَفَاوُتِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا الْمَقَامُ شبيه بقوله تبارك وتعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ [مَرْيَمَ: ٢١] أَيْ دَلَالَةً لَهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ تَعَالَى وَتَقَدَّسَ حَيْثُ خَلَقَ الْخَلْقَ على أربعة أقسام، فآدم عليه الصلاة والسلام مَخْلُوقٌ مِنْ تُرَابٍ لَا مِنْ ذَكَرٍ وَلَا أُنْثَى، وَحَوَّاءُ عَلَيْهَا السَّلَامُ مَخْلُوقَةٌ مِنْ ذَكَرٍ بِلَا أُنْثَى، وَسَائِرُ الْخَلْقِ سِوَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ أُنْثَى بِلَا ذَكَرٍ، فَتَمَّتِ الدَّلَالَةُ بخلق عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام. ولهذا قال تعالى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ فَهَذَا الْمَقَامُ فِي الْآبَاءِ وَالْمَقَامُ الْأَوَّلُ فِي الْأَبْنَاءِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا أَرْبَعَةُ أقسام، فسبحان العليم القدير.

(١) أخرجه البخاري في الإيمان باب ٢١، والكسوف باب ٩، ومسلم في الكسوف حديث ١٧، والنسائي في الكسوف باب ١٧، ومالك في الكسوف حديث ٢، وأحمد في المسند ١/ ٢٩٨، ٣٥٩.
(٢) أخرجه مسلم في الزهد حديث ٦٤، وأحمد في المسند ٤/ ٣٣٢، ٣٣٣، ٦/ ١٥.


الصفحة التالية
Icon