يَخْلُفُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَهَذَا الْقَوْلُ يَسْتَلْزِمُ الْأَوَّلَ، قال مجاهد: يعمرون الأرض بدلكم.
وقوله سبحانه وتعالى: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ ابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ مَا بُعِثَ بِهِ عيسى عليه الصلاة والسلام، مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَإِبْرَاءِ الْأَكْمَهِ وَالْأَبْرَصِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَسْقَامِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ وَأَبْعَدُ مِنْهُ مَا حَكَاهُ قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وسعيد بن جبير، أن الضَّمِيرُ فِي وَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، بَلِ الصحيح أنه عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام فَإِنَّ السِّيَاقَ فِي ذِكْرِهِ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِذَلِكَ نُزُولُهُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء: ١٥٩] أَيْ قَبْلَ مَوْتِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثم يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَعْنَى الْقِرَاءَةَ الْأُخْرَى وَإِنَّهُ لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ أَيْ أَمَارَةٌ وَدَلِيلٌ عَلَى وُقُوعِ السَّاعَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أَيْ آيَةٌ للساعة خروج عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ يَوْمِ القيامة، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي الْعَالِيَةِ وَأَبِي مَالِكٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَوَاتَرَتِ الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أخبر بنزول عيسى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِمَامًا عَادِلًا وحكما مقسطا.
وقوله تعالى: فَلا تَمْتَرُنَّ بِها أَيْ لَا تَشُكُّوا فِيهَا إِنَّهَا وَاقِعَةٌ وَكَائِنَةٌ لَا مَحَالَةَ وَاتَّبِعُونِ أَيْ فِيمَا أُخْبِرُكُمْ بِهِ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ أَيْ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ أَيْ بِالنُّبُوَّةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ «١» يَعْنِي مِنَ الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ لَا الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ جَيِّدٌ ثُمَّ رَدَّ قَوْلَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ بَعْضَ هَاهُنَا بِمَعْنَى كل، واستشهد بقول لبيد الشاعر حيث قال:
[الكامل]
تَرَّاكُ أَمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أَرْضَهَا | أَوْ يَعْتَلِقُ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا «٢» |
(٢) البيت للبيد بن ربيعة في ديوانه ص ٣١٣، والخصائص ١/ ٧٤، وشرح ديوان الحماسة للمرزوقي ص ٧٧٢، وشرح شواهد الشافية ص ٤١٥، والصاحبي في فقه اللغة ص ٢١٥، ومجالس ثعلب ص ٦٣، ٣٤٦، ٤٣٧، والمحتسب ١/ ١١١، وتفسير الطبري ١١/ ٢٠٧، وبلا نسبة في خزانة الأدب ٧/ ٣٤٩، والخصائص ٢/ ٣١٧، ٣٤١.
(٣) لفظ ابن جرير الطبري ١١/ ٢٠٧: وأما قول لبيد «أو يتعلق بعض النفوس»، فإنه إنما قال ذلك أيضا كذلك، لأنه أراد: أو يتعلق نفسه حمامها، فنفسه من بين النفوس لا شك أنها بعض لا كلّ.